للأستاذ فهد عامر الأحمدي عمود يومي في جريدة الرياض عنوانه (حول العالم)، ويكتب فيه عن كل ما يلفت انتباهه من غرائب علمية وجغرافية وتاريخية وسياسية قديمة ومعاصرة. وأعترف أنني متابعة جيدة لهذا العمود لما يحتويه من معلومات قيمة يعرضها الأستاذ فهد بأسلوب مشوق وبسيط يجذب عدداً كبيراً من القراء كما يتضح من المداخلات التي يحصل عليها مقاله بشكل مستمر. يتخصص الأحمدي إذاً في مواضيع معلوماتية تثير الدهشة وتشبع الفضول، وهو قد ميز نفسه وتخصص في الخوض في مواضيع بعينها لا يشذ عنها، وهي في جملتها موسوعية لا تجعله كاتب رأي أو صاحب مقال. لكن الأحمدي فاجأ قراءه ومتابعيه الأسبوع الماضي بمقال خرج فيه عن خط سيره وبشكل مزعج، فالمقال لم يأت على معلومة واحدة، إنما قدم رأياً للكاتب يعوزه الكثير من المنطق واللياقة، ويتضح هذا بقوة من العنوان الصادم الذي اختاره « أعطني مخترعاً وخذ كل الأدباء». http://www.alriyadh.com/2012/06/10/article743135.html وقد يبدو أن الكاتب يناصب الأدباء العداء ويتمنى زوالهم أجمعين، مما يحفزنا على قراءة نصه لعل الصورة تتضح من خلال نقاش منطقي وجدل متماسك. ما يقوله الأحمدي هو أن التقنيات والأجهزة الحديثة ابتداء من الكهرباء إلى حبات الدواء كلها أفادت الإنسان وطورت حياته وحمته من الأمراض إلى درجة تجعلنا لا نتخيل حياتنا دونها. هكذا يكدس الكاتب مظاهر الحياة الحديثة في كفة ميزان، ثم يضع على الكفة الأخرى الملاحق الأدبية، فيقول :» تأمل كل ذلك ثم احسب كم ستخسر البشرية في حال توقف الملاحق الأدبية وكم ستخسر في حال توقف الجامعات التقنية ومراكز البحث العلمية؟» ولا بد لنا أن نتساءل هنا: أهذا هو كل ما يزعجه من الأدب والأدباء: ملاحق أدبية؟؟ سيستطرد الأحمدي موضحاً أنه لا يقصد حقيقة الأدب ولا الأدباء، ولكنه يرمي إلى مصادر الأدب، أي تلك المعاهد والكليات التي تنتج لنا أدباء بتعليمهم الأدب. يقول « وفي المقابل تأمل كافة التخصصات الثقافية والأدبية والتنظيرية لتكتشف أنها لم تضف لحياتنا غير المزيد من العزلة والفرقة والمزايدات الكذابة..»!! إني لأزداد عجباً!! متى كانت التخصصات الدراسية هي التي تنتج لنا أدباء؟ أو لا يكون المتخصص طباً وعلوماً يحمل موهبة أدبية يمارسها دون تخصص؟ طبعاً وهم كثر ومثلهم ممن يمارسون الأدب بتخصصات أو بدون دراسة. إذاً، كان يجب على الأستاذ الأحمدي أن يسأل هذا السؤال قبل أن يتبرع بقذف كل الأدباء إلى المجهول مقابل مخترع واحد. لنحاول أن نمسك الخيط المنطقي مرة أخرى من العنوان، فالواضح أن الأحمدي يريد لنا مخترعا بأي طريقة، حتى ولو عن طريق تقديم الأضاحي والنذر، لذا فهو يتبرع بالأدباء جميعاً علَّنا نحظى في المقابل بذلك المخترع الفذ. هل هذه هي الطريقة المنشودة لبزوغ ذلك النجم المرتقب؟ هل يتوقع الأحمدي حقاً أننا حين نتخلص من جيمع الأدباء فإن المخترع المخلّص سيطلع علينا من وراء الأفق؟ ما هي العلاقة بين هذا الأفول وذاك البزوغ؟؟ لا أدري. حسناً.. سيتراجع الأحمدي في ما يقول بعد قليل، كما تراجع غيره من الناس الذين لا يجدون للأدب فائدة تذكر، والذين يعتبرون الفنون والآداب أنشطة الفارغين والضائعين في الأرض. يقول الأحمدي متراجعاً: « لا يضايقني وجود الأدب والثقافة والتنظير.. فالإبداع الثقافي والأدبي والفني من طبيعة المجتمعات البشرية.. والشعر جميل.. والأدب رائع.. وقصص التراث ممتعة»، ثم يضع كل ذلك في تقاطع مع « التقدم المادي والتطبيقي الملموس.. فلا شيء من هذا سيشفي من مرض ولا سيحلي مياه البحر ولا يطير لقارات العالم الخمس ولا يقف تحت الميكروسكوب ولا تشطر الذرة ولا تصعد للفضاء..» سبحان ربي.. وهل هذه هي مهام الأدب؟ هل سنشترط على الأدب ونطالبه بأن ينسلخ عن طبيعته ويتحول إلى علم تطبيقي نافع وإلا رفضناه وتخلصنا منه؟ هل لاحظت معي كيف أن دائرة الأدب اتسعت أكثر لتشمل الثقافة والتراث والتنظير والفن؟ بعد قليل، ثم في نهاية المقال ستزيد اتساعاً ليضيع الأدب بين منافسيه في عملية التخلص الفوري. الأستاذ الأحمدي يضايقه الكثرة مقابل القلة: «لا يضايقني وجود الأدباء والشعراء والخطباء ولكنني فقط أراهم كالنخيل في بلادنا/ أكثر مما ينبغي مقابل اختفاء محاصيل إستراتيجية مهمة!!» أكثر مما ينبغي، إلى درجة الغرق، ويتساءل : « إلى متى يستمر غرقنا في الأدب والتراث والعلوم النظرية البحتة؟ لماذا كل العباقرة لدينا أدباء، والمبدعون شعراء، والمثقفون أرباب كتابة ونثر وتنظير؟» مرة أخرى، أعجز عن تخيل الرابط بين وجود الأدب وانعدام العلوم التطبيقية!! فالمدارس والمعاهد والكليات التي يلومها الأحمدي على تخريج الدارسين إلى ساحات الأدب غير المفيدة، تقوم هي ذاتها بتعليم العلوم الطبيعية والتطبيقية والتجريبية والبحتة. منذ الثانوية وتخصص العلمي موجود كمسار دراسي يصل بالدارس إلى الجامعة والماجستير والدكتوراه والابتعاث إلى الخارج لتعميق المعرفة، فهل يقترح الأحمدي إغلاق كل التخصصات في العلوم الإنسانية والفنون الحرة، وعندها سيصبح لدينا عباقرة في العلوم الأخرى؟ ثم يغير الأحمدي مجرى الحديث حين يسأل: لماذا نتحدث دائماً عن المتنبي والجاحظ.. ولا نعرف شيئاً عن علي مشرفة ويحيى المشد وسميرة موسى.. وغيرهم من العلماء؟ نعم يجب علينا أن نعرفهم وهذه ربما أخطاء الإعلام أو المناهج في التعريف بمن لا نعرف، لكن هل سنحقق التعريف بهؤلاء العباقرة في اللحظة التي سنهمل فيها رموز الأدب وننساهم؟ ألا يمكن أن نحقق الأمرين سوياً؟ يكره الأحمدي، مثلما يكره كل عربي، اعتمادنا التام على استيراد متطلبات حياتنا وضروريات بقائنا أحياء، ويريد لنا أن نحقق اكتفاء ذاتياً، ونخترع لأنفسنا ما يكفينا شر السؤال، ولكن هل يتخيل الكاتب أن اللوم يقع على الأدب في المكان الأول والأخير؟ إلا يدرك أن الاختراع هو جزء بسيط من منظومة كاملة من الدعم والتسويق والإنتاج والترويج؟ المخترع مرتكز على ثقافة شاملة تجيد تعليمه وتحفزه وتدعمه وتوجهه، وهي ذات الثقافة التي تجعل الأديب نجماً كما تفضل الأستاذ الأحمدي في مقال سابق له بعنوان: ( الأدباء هناك نجوم) http://www.alriyadh.com/2012/04/25/article730289.html في ذلك المقال يروي لنا فهد عامر الأحمدي كيف أن الأدب يحتل مكانة مرموقة عند الأمم المتقدمة، ويذكر أوروبا وأمريكا بالتحديد، ففيهما يتحول الأديب إلى نجم كبير يتابع مؤلفاته مجموعات هائلة من القراء ترصدها مؤسسات مختصة وتحدد الاتجاهات الثقافية والأدبية التي يفضلها القراء. هل نسي الأحمدي ذلك المقال السابق له، أم أنه يرى أن الاهتمام الكبير والشغف القرائي الواسع قد عطل العلوم وأوقف ولادة المخترعين في أوروبا وأمريكا؟ يردد الأحمدي في النهاية قوله بكل صراحة: « أعطني مخترعا وخذ كل الأدباء.. أعطني مهندسا وخذ كل الخطباء.. أعطني طبيبا وخذ كل خبراء الفن والكورة..» ها قد اتسعت الدائرة وسنتخلص ليس فقط من الأدباء مقابل المخترع، بل ومن الخطباء مقابل المهندس، ومن الفن والرياضيين مقابل طبيب!!! هكذا سيتحول المجتمع إلى رقعة شطرنج يتحارب كل فرد مع الآخر بغرض التخلص منه كونه عالة على الرقعة، هكذا يجب أن يموت كل جندي فداء للحجر الأكبر والأكثر فائدة، وهكذا تنتهي اللعبة وعلى قاعدتها فرد عبقري أوحد، ذلك المخترع، وربما تسمح الظروف ويقف إلى جانبه أيضاً مخترع آخر.. الفكرة لم تتضح أبداً، بل تاهت في خضم عجيب من التناقضات المنطقية. هذا المقال للأستاذ الأحمدي يجعلني أقول له بكل صراحة: أعطنا مقالات معلوماتية كما عهدنا منك وخذ مقال الرأي هذا كله إلى المجهول. [email protected]