وليس بعيداً عن هذه البيئة الحركية الصاخبة التي أحدثتها جماعة الإخوان المسلمين في بيئتنا بحراكها التنظيمي المرتب في خطواته تصاعديا لتحقيق أهدافه البعيدة في تنشئة جيل جديد رافض يستطيع أن يؤثر ويمسك بمقود التغيير على كل المستويات في المجتمع؛ ليس بعيداً عن هذا النشاط الفكري المسيس جماعة يتسم نشاطها بالهدوء والبعد عن مجريات الأحداث السياسية؛ تلك هي جماعة التبليغ المنزوية في مسجد صغير من مساجد الرياض يقع على ناصية شارع الأعشى يعرف بمسجد سكيرينه، جماعة نازحة فكرياً من الهند تخلط التبتل بالتصوف بالزهد بهجر المجتمع والعزلة عنه والترحل والتجمع للتحشيد والتهيئة وغرس مفهوم العزلة عن المجتمع الفاسد بتكوين نموذج جماعات صغيرة صالحة منه تجتهد في إيصال صلاحها إلى بقية أفراده من خلال الترحل مع الأحباب كما يسمون أنفسهم إلى كل صقع ومصر، فتجدهم في المدن والأرياف والهجر، وفي الداخل والخارج يصطحبون أبناءنا لتهيئتهم لتقبل فكرة الانخراط في التغيير متى ما سنحت الفرصة المنتظرة؛ لذا تحدر من هذه الجماعة غير واحد ممن قادوا أو أسهموا في حركات عنف مسلحة كجهيمان وكثير من أفراد زمرته التي تجمعت من أهل الحديث والتبليغيين وأخذت مسمى «السلفية المحتسبة». أما التيار السلفي فقد كان حاضرا بهدوء وكأنه غير موجود من حيث التخطيط والعمل على دفع غائلات التيارات الأخرى؛ نظرا لثقته العميقة في متانة بنائه الفكري وعمق تغلغله في البيئة، ولأنه التيار الأشمل والأوسع والأقوى، أليس هو المنهج الذي اختاره الإمام محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب لتكوين أول مفهوم لأول دولة حقيقية تقوم في شبه جزيرة العرب؟! فكان غافلاً عما يحدث من حوله من استقطابات، وربما ساعد على ذلك شيء من انصراف بعض رموزه التقليديين بحكم نشأتهم عن الإلمام الكامل بما تصطخب به الساحات الفكرية من جدل وطروحات وإعادة صياغات وتهيئة لمراحل قادمة مختلفة؛ ولذا تمرد على التيار السلفي التقليدي نفسه بعض تلامذته ومن تلقى على يد بعض رموزه الكبار، لأنه لم يجد -كما يزعم- في الموقف السلفي التقليدي ما يساعد على تبرير وتسويغ النشاط الحركي العنفي الذي تبناه ودعا له «جهيمان» وزمرته، وقد كانوا تلامذة بارين في المدرسة السلفية ثم تمردوا عليها! وهنا تنشأ جماعة توفيقية ليست سلفية خالصة كما هو منهج السلف الصالح الذي أخذ به الإمام بن عبدالوهاب ومن سبقه من أعلام التيار السلفي الطويل والممتد وليست هي أيضا زاهدة أو متصوفة؛ بل تعيش الحراك السياسي؛ تلك هي «الجامية» المنسوبة إلى محمد أمان الجامي الحبشي، وهو أحد تلامذة الشيخ عبدالعزيز بن باز، ولكنه لا يقف مثل الشيخ موقفا ناقدا برفق على ما يرى أنه لا بد من إنكاره -كما هو منهج السلف- بل تذهب الجامية إلى قبول وتأييد رؤية السياسي في كل حين. وقد توالدت الجماعات جماعات، ونشأت أجيال هي مزيج غريب متآلف من المدرسة الإخوانية السلفية تتبنى العنف وتعتمد أسلوب فرض الرؤية بالدم، حيث تطلق على نفسها «السلفية الجهادية» وهي تلك التي انطلق منها الفكر القاعدي الذي أراق الدماء وقسم العالم وكان سببا في تدمير بلدان إسلامية عدة وتسليمها طواعية للأعداء. من نحن أمام كل هذه التيارات المعلنة والمستترة وما سينضج من جماعات مازالت في طور التشكل بوسائط الاتصال الحديثة؟! أكاد أجزم أنه لا بد للسلفية كي تنقذ نفسها من أن تقدم في كل حين تفسيرا مقنعا وذكيا ووجهة نظر عصرية واعية لقراءة ما يجري من أفكار واجتهادات وإشكالات متكئة على تأريخ طويل وعميق من الموروث الاجتهادي السلفي ومن العودة إلى المنابع الأولى لتفسير ما يستجد من قضايا لنواصل المسيرة الحضارية دون اضطراب أو قلق أو انفلات أو تربص جماعات مسيسة. [email protected]