كنت قد قررت عدم العودة إلى مقالتي : ( السلفية ) .. هل هذا وقتها ؟ ، لكن بعد مضي أيام وجدت أن مقالات قليلة ظهرت و التزمت بنقاش الفكرة أكثر من انشغالها بما سوى ذلك ، فوجب عليّ أدباً التجاوب معها . يأتي على رأس ذلك بالطبع رد فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان ، الذي أكرمني وأنا في مقام ابنه الصغير بأخلاقه وابتعاده عن سفاسف الاستعداء والتخوين التي وقع فيها آخرون ممن هم في مقام الطلب والتعلم عند الشيخ . نموذج آخر من هذه الفئة الكريمة هو الأستاذ الباحث خالد المشوح الذي عنون رده ب ( ثلاث وقفات مع مقال زياد) وأنا أقف معه “وقفة واحدة ” هي وقفة احترام وتقدير لعلميته وانضباطه رغم اختلافه الكبير، لكن المؤصّل ، مع مضمون مقالتي . وعدد آخر قليل بالمثل ممن تناولوا المقالة أكثر من تناولهم الكاتب ! لأجل هؤلاء و أمثالهم أقف هذه الوقفات اليوم : أولا ً: استظهر كثير من المعقبين أن مقالتي هدفها النيل من السلفية وانتقاصها ، ثم استطردوا بناء على استنباطهم ذلك في تبيان فضل السلف الصالح وسنية اتباعهم والاهتداء بهم ، كأني كنت أدعو إلى اتباع فئة أخرى غير السلف الصالح ؟! الحق أن تلك الردود لم تكن بحاجة إلى تبيان فضل السلف الصالح لأني بحمدالله ممن يدين الله بفضل وحب الصحابة والتابعين الأخيار ، ولذا لم يكن عبثا ً وضعي (السلفية ) في عنوان مقالي بين قوسين هكذا : ( السلفية) هل هذا وقتها ؟! لأني لم أكن أتحدث عن السلفية بمفهومها المطلق ، التي هي سلفية السلف الصالح ، بل كنت أتحدث عن (سلفية) محددة، يعرفها من يريد أن يعرفها ! ببساطة .. كانوا يتحدثون عن السلفية عموما ً ، وكنت أتحدث عن (السلفية) التي بين القوسين. كنت أتحدث في مقالتي عن ( السلفية ) التي أشار الشيخ صالح الفوزان إلى قلقي منها في رده حين قال عني : ” إنه يخاف من السلفية المزيفة التي حصل منها ما ذكره ” ، بالفعل أيها الشيخ الفاضل أخاف من هذه السلفية المزيفة . ثانيا ً: استكثر علي ّ كثير من المعقبين أن أقول بوجود سلفية حزبية تمظهرت في مسميات : السلفية الجهادية والسلفية الجامية والسلفية السرورية وغيرها من المسميات بغض النظر عن مرجعياتها الفكرية ، فأنا الآن هدفي أن أثبت بأنه ليس كل من ادعى أنه سلفي فهو سلفي حقا ! وأراد بعض أولئك المعلقين بتبسيط وتسطيح مذهل أن يُظهروا للقراء أنه لا يوجد في عالمنا ، وبلادنا جزء من هذا العالم ، سوى سلفية واحدة هي سلفية السلف الصالح. لو كان الأمر كذلك فلِم يحذر سمو ولي العهد في كلمته من ” أدعياء اتباع المنهج السلفي ” ؟ يملك الأمير نايف يحفظه الله الشجاعة في إعلان ذلك لكننا لا نملك نحن الشجاعة في الصمت والانصات لأجل الاسهام في إصلاح ما أفسده أدعياء السلفية ؟! ثالثاً: عثرت ، بعد نشر مقالتي بأيام ، على كلمة لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين يرحمه الله ، لو كنت رأيتها من قبل لما ترددت في إدراجها في مقالتي . أشار فيها بكل وضوح إلى تسرب ” الحزبية ” إلى السلفية ، وأننا أصبحنا أمام مفهومين أو أكثر للسلفية بسبب لوثات العصر ” الحزبي” الذي نعيشه . قال الشيخ بن عثيمين : ” السلفية هي اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأنهم سلفنا تقدموا علينا فاتباعهم هو السلفية . وأما اتخاذ السلفية كمنهج خاص ينفرد به الإنسان ويضلل من خالفه من المسلمين ولو كانوا على حق : فلا شك أن هذا خلاف السلفية ” . ثم يمتد الشيخ العارف في وضوح أكثر ليقول : ” لكن بعض من انتهج السلفية في عصرنا هذا صار يضلل كل من خالفه ولو كان الحق معه ” . ويكشف الشيخ ابن عثيمين بصدقه ووعيه كل الأوراق حين يقول : ” واتخذها بعضهم ، أي السلفية ، منهجا ً حزبيا ً كمنهج الأحزاب الأخرى التي تنتسب إلى الإسلام ، وهذا هو الذي يُنكر ولا يمكن إقراره ” . هل كان الشيخ بن عثيمين يرحمه الله ضد الدعوة السلفية أو أنه ضد اتباع السلف الصالح ، أم أنه كان ” إخوانياً ” حين قال هذا الكلام ؟! أبَعدَ إشارة سمو الأمير نايف و بيان الشيخ بن عثيمين من وضوح ؟! رابعا : قال الأستاذ خالد المشوح في تعقيبه الرصين : ” أن الحزبية ليست وليدة الفكر السلفي ، بل السلفية ربما تحاربها وتمارسها في نفس الوقت ، بمعنى أن الحزبية والتحزب هما المنهج لكل التيارات الإسلامية وغيرها منذ أن تأسست جماعة الإخوان المسلمين وولد من تحتها الحركية الإسلامية المعاصرة “. أتفق مع الأستاذ خالد فيما قاله وأزيد عليه أنه إلى ما قبل أقل من عشرين سنة فقط كانت السلفية كلها تحارب الحزبية حقا ً ، ثم في السنين الأخيرة خرج فصيل يتسمى بالسلفية لكنه يمارس الحزبية الاقصائية كما ذكر خالد المشوح. ولذا فمن المغالطة التي يسوقها أولئك القول بأن المخالفين أطلقوا اسم الجامية على السلفية ، وكأن الجامية هي كل السلفية. وسأؤكد هنا أن الحزبية التنظيمية هي حقا ً وليدة الفكر الإخواني لا السلفي ، لكن الحزبية الشعورية هي وليدة الفكر الاقصائي الذي لا يمكن تحديد تاريخ بدايته نظرا ً لقدمه ولا تاريخ نهايته نظرا ً لتجذره في بنية العقل البشري .. والعربي هنا تحديدا ً . وفيما يختص بالحركات الجهادية السلفية فإنه بالفعل لا يمكن إلقاء تبعيتها على السلفية ، لأنها نتاج مسار متخالط من الأدبيات ، فهي أخذت من الفكر الإخواني ما يروق لها من المنطلقات الفكرية والسياسية ثم أخذت من السلفية ما يروق لها من المسوغات الشرعية المنزلة خطأ على الواقع ، لتبرير جهادها الإرهابي ! خامسا : ارتكزت معظم الردود المعارضة على مقدمة أساسية مفادها أني (إخواني) . حسنا ً لو استطعت أن أثبت لهؤلاء أني لست إخوانيا ً ، ماذا سيفعلون وقد تهاوت الحجة التي استندوا إليها في ردودهم ، وبماذا سيفسرون مقصدي من المقالة ؟! مع أني على يقين بأن كثيرا منهم يعرف أني لست كما يزعمون ! لكن قبل أن يجربوا وسيلة أخرى أو تصنيفا آخر فلأساعدهم بهذه المعلومة : فقد ربّانا أبي يحفظه الله ، أنا وإخوتي ، على الاستقلالية في التفكير في حدود الحِمى الكبير ، فنأخذ الفكرة الصحيحة أو التي تطمئن إليها نفوسنا مهما كان قائلها ونرفض القبيحة مهما كان قائلها ، وهي تربية مستندة على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ). الحكمة هذه قد آخذها من ابن تيمية أو من سيد قطب أو من محمد أمان الجامي ، والخطأ سأتجنبه من أي واحد منهم . هذا هو حزبي .. حزب ” الحكمة ضالة المؤمن ” . والله وليّ الصالحين ، جعلنا الله منهم أجمعين .