تدور في الذهن أشياء لا تخضع لحكم العقل، وهذا العقل الذي ميز به رب العالمين بين البشر: قد يكون وبالاً على صاحبه، وما أكثر المصائب التي نالت أصحابها العقلاء، وما أكثر الناجين من الجهلاء، فهل معيار السعادة والشقاء عقل أم غباء، قد يجوع النابه الحذق، وقد يشبع الغبي الجاهل, والإنسان منذ القدم يحاول أن يبرر الظواهر التي يعجز عن تفسيرها، فعندما يتعرض البشر لهذا اللغز: يحاول أن يلقي بالحبال على كلمة اسمها الحظ ويحملها كل المتناقضات الكائنة، عرف المفكرون ظاهر هذه الحالة ولم يستطع أحد أن يعللها فقال المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم فما معنى أن يكون العقل نعمة، وتكون الجهالة شقاء: ولكن هذا المنطق لا يندرج على كل الحالات، وتبقى الفكرة مجرد شعار هتافي، فلا نعلم من الشقي أو السعيد، وإن كان النعيم المطلق أو الشقاء المطلق لا يتحدد في الدنيا فتبقى القاعدة غير مبرهنة. ومن مسارب هذه العجينة أن الحكم المطلق على الظاهر يجانب الصواب، فإن كان النور خيراً وإن كانت النار شراً: إلا أن النور قد يأتي من النار، وقد يبهر النور العين فيحدث شراً، وقد نحتاج للنار لجلب منافع كثيرة وقد يستغني أحدنا عن النور ولا يستطيع الاستغناء عن النار، وإن كان الماء خيراً والتراب شراً، فإن أكثر الكوارث قد يحدثها الماء، وذلك الجدول الرقراق الذي تصطف على جنباته أشجار ظليلة وتجمل حوافه أزهار بهية، يسر العين مرآه ويطرب السمع خرير مياهه، قد يتجمع مع جدول آخر، فيلتقي الخير مع الخير ويتكون نهر يتدفق قد يقتلع الأشجار ويجرف التراب ويغرق المساكن والبشر، هذا الماء الذي يعتبر سر الحياة لكل حياة، فما باله يشكل أكثر اسباب الشقاء وما باله يشكل دوامات الفناء، فالبحر يمدنا بطعام شهي ويحمل على سطحه سفناً نستمتع بها ويبهجنا تلاحق أمواجه، ما باله إذا غضب يدمر كل من تعامل معه ويتحول من حصان أليف خادم إلى بغل عنيد جامح؟ والتراب الذي نأنف من التعامل معه: نتعالى أن نجلس عليه، ونغضب لو سقط بعضه على ثيابنا ونغضب لو سقط بعضه على طعامنا: أليس هو العائل الأهم لطعامنا: ألا يحتوي على معادن تشكل تكوين جسدنا، وفي غيابه كيف تستقر على الأرض أقدامنا، ونجده أكثر كرماً من أبنائنا وأفراد عشيرتنا فعند موت أحدنا يعافنا كل البشر ولا يرفض أن يستقبل جثمان أحدنا ثم يمضي في كرمه فيحلل أجسادنا ويخلطها بذراته. قبل أن أمضي بين جناحي النار والنور أجامل من يقفز التعليل إلى ذهنه فعند سماعه أو قراءته لتحليل ظاهرة كونية: قد يمل من متابعة التحليل وقد يكره أن يعرف التحليل ولا ألوم الفرد العاديّ في ذلك وإحالته الظاهرة إلى مشجب يلقي عليه تعليلاً ظاهرياً، ولعل الصحابي الجليل الخليفة الثاني رضي الله عنه الذي منحه ربه عقلاً ثاقباً وإيمانا راسخاً وكفاه ما يروى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: نزل الحق على لسان عمر نجد هذا الصحابي العاقل الذكي المؤمن التقي يقول: اللهم إيمانا كإيمان العجائز ونراه عندما يهمّ بتقبيل الحجر الأسود يقول: والله إنني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك . فالنار والنور لافتتان زاد سمك شريحة كل منهما ما ذكره المتوارثون عن مدح، احداهما وذم الأخرى. الخير والشر، والنور والنار وكل الثنائيات المتقابلة لا نستطيع إطلاق كنه كل منهما، وقد وقع في هذا الخطأ مذهب المانوية الذي اعتقد بالثنائية وتقابل الموجودات أو تحديد طبيعة الموجودات بالمقابلة المانوية، فأتصور أن إطلاق الحكم على الظاهر توارث وهمي غير صائب، فالنار قد تكون نوراً، والنور قد يكون ناراً، الوردة قد تكون خيرا، والزهرة قد تسر بمرآها الناظرين، ولكن الموقف قد يتغير لو كانت زهرة خشخاش تجلب ثمرة المخدرات، والقصبة النابتة في قمم الجبال أو سفوحها منظر جميل وأداة نافعة، ولكن الوضع قد يتغير لو كانت تلك القصبة قناة رمح تستخدم لطعن الأبرياء, والحديد فيه منافع كثيرة وسبحان ربي عندما قال عن الحديد: فيه منافع ولم يقل إنه نافع على الإطلاق، لعلمه سبحانه أن منافع الحديد لا تحصى، ولكن هذا الحديد قد يتحول إلى شر فقد يعمل منه رصاص يقتل البشر، والفأس التي تحرث الأرض وتخرج منها منافع كثيرة، قد تستغل في قطع أشجار مثمرة، وقد تستعمل في تحطيم موجودات نافعة، وقد تستخدم للفتك بنفوس بريئة. قد يتساءل أحدهم: ماذا نقصد بهذا الحديث؟ هل نشك في كل الموجودات؟ هل تسحب الثقة من كل البشر؟ كيف نتعامل مع سائر الأشياء الكائنة؟ هل نفرح بالجدول أم نغضب؟ هل ننبت الأزهار أم نتلفها؟ في تصوري: ومن المؤكد أنه تصور بشري يسلك عليه الحوار الكائن بان الشيء يحمل في طياته شتى المتناقضات ويجري عليه التعميم في الحكم, واعود إلى تصوري الذي ينطلق من هذه القاعدة: بأن الحكم على الظاهر غير صحيح، وقد فطن المفكرون لهذه الظاهرة وحاول بعضهم سردها دون تعليلها حاول بعضهم إقرار الظاهرة دون إعطاء وصف لطبيعتها فقال شاعرهم: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب لقد أنس الإنسان للملمس الناعم: ولكنني لا أجد نعومة أكثر من جلد الأفعى, ويعلم الكثير أهمية العصا: ولكن العبرة أن نستخدمها لنهش بها على الغنم أو يهتدي بها الضرير للسير في الطرقات، أو يستخدمها الشجاع لقتل حيوان خطر: أم يستخدمها شرير لضرب بريء أو يستخدمها قوي للفتك بضعيف مسكين, ولو رأيت عالماً تمكن من أسرار العلوم: لا تستعجل في مديحه واحتوائه: فقد يخرج من علمه ما ينفع البشر ويقد يصنع قنبلة ذرية تهدد أو تبيد البشر، ولو رأيت ثريا يلقي بثرواته على الناس فلا تستعجل بوصفه كريما: فقد ينفق أموال متحسراً لدعاية أو جلب أصوات الناخبين أواستقطاب قصائد مديح يتيه بها بين البشر, ولو رأيت دموعاً تنهمر من إنسان يقف على جنازة: لا نعلم ان كانت دموع الحزن والأسى أم دموع الفرح والاغتباط، وقد يكون أول المشيعين هو الذي طعن الميت حتى قتله. فأين المفر؟ كيف السبيل إلى التعامل مع هذه المتناقضات؟ هل ينفع الحذر؟ هل ينفع الذكاء؟ أتصور أن الجواب ما قاله الشاعر: هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من فتكي وبطشي الفتك والبطش قد ينالان الأذكياء وينجو منهما الأغبياء كما قال المتنبي سابقاً.