للحج أهمية عظيمة، ومن مظاهر ذلك العناية التامة بهذه الشعيرة منذ ذلك الحين، يوم أن فرض حتى وقتنا هذا، ومن مظاهر ذلك الاهتمام الكبير تسهيل تنقل الحجاج من بلدانهم أينما كانت حتى وصولهم إلى رحاب البيت العتيق، بسلوكهم طرق الحج المختلفة التي اعتُني باختيار منازلها ومواردها ومعاشاتها أيما عناية. ومن أجل ذلك أقدم ما تيسر في هذا المجال. بدأتُ في المنطقة المحاذية لعنيزة التي أنا من مواليدها وأجدادي، ويشمل ذلك تحديد منزل كل من القريتين والرمادة وعجلز، ويدخل تحت ذلك تحديد رحب ورمادان. وسنقتصر في هذه الدراسة اللاحقة على تحديد المنازل التي يمر بها قديماً حاج البصرة عند محاذاته عنيزة، وسيكون حديثنا هنا عن تحديد منزل القريتين بالقرب من عنيزة، وهذا هو المنتج الرئيسي هنا. ويحسن أن أورد بعض النصوص المتصلة بموقع القريتين؛ لنتمكن من خلالها من تصوّر الموضع. - قال نصر في كتابه الأمكنة (2 - 357): «أما تثنية قرية: مكان بين مكة والبصرة، وموضع دون النباج ينسب إلى ابن عامر بن كريز». - وقال ياقوت في معجمه (4 - 336): «والقريتان قريبة من النباج في طريق مكة من البصرة، قال السكوني: هما قرية عبدالله ابن عامر بن كريز، وأخرى بناها جعفر ابن سليمان، وبها حصن يقال له (العسكر)، وهو بلد نخل بين أضعافه عيون في مائها غلظ، وأهلها يستعذبون من ماء عنيزة وهي منها على ميلين». - قال وكيع في كتاب الطريق (ص 338): «أخبرني عبدالله بن عمر عن علي بن محمد بن سليمان عن أبيه قال: القريتان الدنيا منهما قرية ابن عامر والأخرى قرية بناها جعفر ابن سليمان، وبها حصن، والقرية يقال لها العسفر، وهي بلد نخل تطرد بين أضعافها عيون في مائها غلظ، وأهلها يستعذبون ماء عنيزة وهي على ميلين من القريتين». - وقال الأصفهاني في بلاد العرب (ص 340): «القصيم موضع ذو غضا، فيه مياه كثيرة وقرى، منها قريتا ابن عامر وهي اليوم لولد جعفر ابن سليمان، أحدهما يقال له العسكر (وفي إحدى النسخ العسكران)». وتطلق هذه التسمية (القريتان) إضافة إلى موقعنا على مواضع عدة، أحدها: في البحرين (المنطقة الشرقية) وهي ثيتل والنباج (قديماً) القرية العليا وقرَيّة (حالياً)، والموضع الآخر على: ملهم وقران (القرينة)، كما تطلق على موضع آخر بالشام وهي قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية قرب تدمر، وهي التي تدعى (حوارين). وأشار صاحب كتاب الطريق وكيع إلى بُعد العوسجة عن القريتين حين قال (ص 338): «ومن العوسجة إلى القريتين اثنان وعشرون ميلاً». كما أشار إلى بُعد رامة عن القريتين حين قال (ص 342): «ومن القريتين إلى رامة أربعة وعشرون ميلاً». وللخروج من دوامة تحديد قيمة الميل مقارنة بالوحدات المترية الحالية (الكيلومتر) فإن العلاقة بينهما هي علاقة نسبة وتناسب، ولهذا الاعتبار فإن القريتين ما دامتا تقعان بينهما فإن حاصل قسمة المسافة بين كل من العوسجة ورامة بالميل هو نفسه حاصل قسمة المسافة بينهما بغيرها من الوحدات المنسوبة إليهما في العلاقة، وهذه النسبة من خلال معطيات وكيع في كتابه الطريق هي: 24 \ 22 = 1.09. وبإجراء بعض العينات والحسابات على مجموعة من المواقع المرشحة وجد أن المعادلة السابقة تنطبق بشكل واضح على العيارية التي تقع إلى الشمال من عنيزة بينها وبين وادي الرمة حيث تبعد نقطة مختارة منها عن رامة 46.6 كيلومتراً وعن العوسجة 42.4 كيلومتراً وبتطبيق المعادلة السابقة نحصل على النتيجة الآتية: 46.6 \ 42.4 = 1.099 وهذا يعني انطباق البُعد على العيارية، إذن فهي إحدى القريتين اللتين يمر بهما حاج البصرة عندما يحاذي عنيزة. كما يشكل البُعد عن عنيزة دالة (function) أخرى مؤكدة على موقع القريتين، حيث اتفق البلدانيون على أن بعدها عن عنيزة ميلان، وبإجراء القياس من أحد المواقع المرشحة لتكون عنيزة حيث أفادني بذلك أحد كبار السن من أهالي عنيزة - أمد الله في عمره- وهو العم علي السالم العباد (أبو سالم) بالموقع الذي كانت تقع فيه الأكمة السوداء في عنيزة، التي استقت عنيزة اسمها منها، وهي تقع إلى الشمال من الدغيثرية عند الإحداثين: N26 08 845 E043 53 364 وبقياس المسافة إلى العيارية وجد أنها تزيد على 3.7 وهو بُعد مناسب للميلين الذي أشرنا إلى اتفاق البلدانيين عليه بين عنيزة والقريتين، وهذا أيضاً يؤكد موقع عنيزة الأكمة والمورد. أما (أم القبور) التي تقع إلى الجنوب من الجامع الكبير لعنيزة فإن الموارد تكثر حولها وبقربها القبور لاستيطان الناس حولها، ولسبب آخر وهو تقاتل الناس، وخصوصاً في الجاهلية، عليها؛ ما يؤدي إلى كثرة القبور عندها، وهذا معلوم ومشاهد عند الكثير من الموارد القديمة، وأقرب مكان مناسب ليتخذ مقبرة هو أم القبور؛ لأن ما حول المنطقة التي كانت الأكمة السوداء فيها منطقة رملية، وما بعدها قاع طيني لا يصلحان ليتخذا مقابر حتى الوصول إلى أم القبور التي هي أنسب منطقة لتتخذ مقبرة عند مورد عنيزة. والله أعلم. ويؤيد قدم موقع العيارية وجود اللقا المتمثل في الفخار المزجج والخزف، التي سبق أن أطلعني عليها العم حمود العبيد الله صاحب المزرعة - رحمه الله - وأولاده الكرام. ويؤيد اختيارنا كذلك تسلسل واتساق بقية المنازل قبل رامة في الاتجاه والبعد، مثل الرمادة وعجلز، كما سنشير إليه -إن شاء الله- لاحقاً. ويقع إحداثا العيارية (القريتين) بدءاً من النقطة: N26 07 737 E043 57 453 يتبع إعداد: عبد الله بن عبد الرحمن الضراب