منذ بداية وعينا ونحن نتخم يومياً بالقراءة والكتابة عن القدس، والتغني بالقصائد والأشعار والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.. عن مكانة القدس الشريف والتعريف بأهميتها التاريخية والجغرافية والدينية.. التي لا تخفى على أحد منا.. وقد جرى استصدار عشرات ومئات القرارات والتوصيات الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية بشأنها، والتي لم تشق أي منها طريقها للتنفيذ بعد.. وشكلت اللجان المحلية والعربية والإسلامية باسم القدس.. وأسست مراكز الأبحاث والدراسات للعناية بالقدس تاريخياً وجغرافياً ودينياً وسياسياً وقانونياً.. ولكن كل هذا الجهد لم يثمر وذهب هباء منثوراً.. لم يغير شيئاً قيد أنملة من وضع القدس التي أصبحت عليه منذ وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي في الرابع من حزيران للعام ألف وتسعمائة وسبع وستين، ولم يستطع تعطيل عجلة التهويد ومصادرة هويتها العربية والإسلامية، فعجلة التهويد وطمس الهوية العربية الإسلامية للمدينة المقدسة التي تقودها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجر على قدم وساق، حيث توضع الخطط والسياسات والإستراتيجيات والميزانيات البلدية والحكومية الإسرائيلية موضع التنفيذ وترصد لتنفيذها الميزانيات اللازمة لتحقيق أهداف وأغراض هذه السياسات والإستراتيجيات الجهنمية على كل المستويات السياسية والاقتصادية والسكانية والعمرانية التي في غالب الأحيان يجر البدء في تنفيذها قبل الإعلان عنها، فالفعل في شأن تهويد القدس بالنسبة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي يسبق الإعلان عنه، فلا يتكلمون عما يتوجب عمله مثلنا..! بل يفعلون ما يتوجب إزاء تنفيذ سياسات الطمس للهوية العربية والإسلامية للقدس، سعياً لتحقيق هدف التهويد للمدينة المقدسة.. فالحقائق على الأرض هي التي تتكلم عندهم وليست المقالات والخطابات والقصائد والقرارات والتوصيات (غير التنفيذية) التي أدمنا سماعها من الجانب الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي.. يكفي أن نذكر هنا على سبيل المثال ما رصده الممول اليهودي الصهيوني الأمريكي مسكوفيتش الذي التزم بالتبرع بنسبة عشر مليارات دولار أمريكي لدعم الاستيطان في القدس ولدعم سياسات تهويدها.. هذا عدا عن الموازنات الرسمية الإسرائيلية البلدية والحكومية التي ترصد سنوياً لهذا الشأن، ونحن نقابل كل ذلك ببيانات الشجب والاستنكار والإدانة التي لم تستطع أن تؤقف أو تؤثر في سياسات التهويد الجارية لطمس الهوية العربية وتدنيس المقدس في القدس الشريف. لماذا القدس؟! لماذا كل هذا الاستهداف لهذه المدينة المقدسة؟ لن نجد صعوبة في الإجابة على هذه التساؤلات المشروعة وغيرها، فالقدس بالنسبة لفلسطين بمثابة الروح من الجسد، فمن يمتلك القدس سيمتلك فلسطين، ومن لا يمتلك القدس لن يمتلك فلسطين، فالمعركة اليوم هي معركة القدس قبل أي قضية أخرى، فأي كيان فلسطيني سينشأ مستقبلاً تستثني منه القدس، سوف لا يعني شيئاً، ولكن أي كيان فلسطيني سينشأ مهما كانت مساحته، إذا اشتمل على القدس عاصمة أبدية له، سيكون كياناً فلسطينياً عربياً إسلامياً حقيقياً قادراً على استعادة ما تبقى. لقد جرى تبرير الحروب الصليبية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين بهدف السيطرة على القدس، كما يجري تبرير الغزوة الصهيونية الاستعمارية الحديثة أيضاً بالعودة إلى القدس والسيطرة عليها، لقد سقطت القدس في يد الصليبيين سنة 1093م وحررت بعد معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م أي بعد احتلال دام أربعة وتسعين عاماً، وكانت بداية فقد الصليبيين لكامل سيطرتهم على فلسطين ومنطقة بلاد الشام والساحل المصري، ولم تكتمل عملية التحرير هذه إلا في عام 1238م أي بعد واحد وخمسين عاماً من تحرير القدس على يد القادة المماليك قطز والظاهر بيبرس. لقد أدرك الفلسطينيون والعرب والمسلمون أهمية ومعنى القدس، فهل سيدركون ما يتوجب عليهم فعله إزاءها؟! لمواجهة سياسات الاستيطان والعزل والتغيير الديمغرافي والتهويد الذي تواصل تنفيذه سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مستوى مدينة القدس ومحيطها الفلسطيني. يجب أن يجر تجاوز سياسات البيانات والقرارات والتوصيات العربية (غير التنفيذية) التي اعتدنا عليها والتي لا تساوي قيمة الأحبار التي تكتب بها، وأن ننتقل إلى وضع سياسات وإستراتيجيات تنفيذية، ترصد لها الموازنات اللازمة لكسب معركة القدس تبدأ من القدس وفي القدس أولاً، وتتمثل في دعم وتثبيت الإنسان المقدسي في القدس، المسلم والمسيحي على السواء، للصمود في تلك المدينة المقدسة والحفاظ على هويتها العربية والإسلامية وإفشال مخططات التهويد الجارية بحقها، لأن الذي لا يعطي المكان هويته هو الإنسان الذي يعيش عليه، كما الذي يعطي المقدس مكانته هو المؤمن الذي يؤمن المكان المقدس ليؤدي فيه عباداته.. فلا قدس ولا مقدسات بدون مقدسيين مؤمنين عرباً مسلمين ومسيحيين، ومن هنا تبدأ المواجهة، والدعم لا يأتي بالبيانات وإنما بالأفعال والأموال التي تمكن هذا الإنسان المقدسي من الصمود والتحدي في مواجهة سياسات التطهير العرقي والتهويد وإرهاب الدولة الصهيوني المنظم. هذا الإنسان المقدسي الذي نراهن عليه في معركتنا المصيرية فلسطينياً وعربياً وإسلامياً في مواجهة المشروع الصهيوني في القدس خاصة وفي فلسطين عامة، فالصرخة التي عبر عنها الأخ أحمد قريع - عضو اللجنة التنفيذية ل(م. ت. ف) ورئيس دائرة شؤون القدس في مقالة له نشرت في الصحافة الفلسطينية في بحر الأسبوع الماضي (القدس في خطر - وإسرائيل تواصل سياسة إرهاب الدولة بحق المقدسيين)، قد جاءت بمثابة دق لناقوس الخطر يكشف عما وصلت إليه حالة القدس جغرافياً وديمغرافياً واقتصادياً وسياسياً جراء سياسة المحتل الإسرائيلي في شأن تهويد القدس وفي شأن معركتها المصيرية التي هي معركة فلسطين ومعركة الأمتين العربية والإسلامية، فالقدس تستحق منا أن نعمل أكثر لأجلها، وليقوم الجميع منا بمراجعة (أقواله وأفعاله من أجل القدس)، وأن يطرح على نفسه سؤالاً، ما العمل من أجل القدس والحيلولة دون تهويدها؟! فلا بد من عمل حقيقي من أجل القدس، لكسب معركتها، وأول المعنيين بهذا الأمر الفلسطينيين أنفسهم وسلطتهم الوطنية، وفصائلهم المختلفة، وهذه قضية لا تحتمل الاختلاف، ثم يأتي دور الأشقاء من الدول العربية والإسلامية دولاً وشعوباً وأفراداً وما يتوجب عليهم من الالتزام بسياسات ومواقف عملية واضحة (وممكنة التنفيذ) من أجل مواجهة سياسات العزل والتطهير العرقي والتهويد الجارية على قدم وساق في القدس الشريف وإنقاذها وكسب معركتها المصيرية الدائرة رحاها وبشراسة على أسنان الجرافات الإسرائيلية والمال الصهيوني السخي في هذا الشأن، فالسلام يبدأ من القدس والحرب تندلع من القدس، والقدس عاصمة فلسطين الأبدية، ومن امتلكها امتلك فلسطين، ومن امتلك فلسطين أصبح سيداً لهذا العالم، فهل وصلت صرخة القدس والمقدسيين إلى مسامعنا؟ وهل أيقظت ضمائرنا وعزائمنا لكي نعمل أكثر من أجل القدس؟ وأن ننتقل بمواقفنا وأفعالنا من رد الفعل إلى ساحة الفعل الحقيقية؟ لن نيأس لأن إيماننا راسخ وأملنا بالله ثم بشعبنا وأمتنا وبكل الغيارى على الحق والعدل والسلام لن يخيب إن شاء الله. عضو المجلس الوطني الفلسطيني E-mail:[email protected]