في فجر يوم الاثنين الماضي الثاني من شهر صفر توفي الوالد الحبيب الإنسان الطاهر النّقيّ الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله الرويتع رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. كان عميد أسرته في السنوات الماضية وآخر من توفي من إخوانه غفر الله لهم جميعاً. التقيت به أول مرّة قبل ما يزيد على ثلاثة وثلاثين عاماً عندما صحبت والدي رحمه الله لزيارته ولا زلت أذكر تفاصيل ذلك اللقاء والانطباع الذي خرجت به منه. لم يتغيّر ذلك الانطباع على مدى كل السنين التي عرفته فيها، وإنما ازداد رسوخاً وتأصلاً. كان الشيخ محمد رحمه الله كتلة من النقاء والصفاء والطيبة التي لا حدود لها. لم أسمعه في أي يوم من الأيام يذكر أحداً بسوء فلم يكن للغيبة محل في حياته على الإطلاق. كان لسانه رطباً بذكر الله لا يكاد يقول عبارة واحدة إلا بدأها وختمها بحمد الله وشكره. كان مسلماً حقاً سلم الناس من لسانه ويده. أسرته من الأشراف الذين هاجروا إلى نجد فهو من سلالة خير الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. ربى أسرة كبيرة فأحسن التربية والرعاية حتى أصبحت مضرب المثل في الطيبة والخيريّة ومكارم الأخلاق. كان محبوباً من الصغار والكبار، ألوفاً مألوفاً تطمئن إليه القلوب وتجلّه وتحترمه. كنت أرى فيه اختزالاً لما أحدثته حركة الإصلاح والتجديد في الجزيرة العربية في المجتمع السعودي من جلاء الفطرة وتنقية المعتقدات وربط الناس حتى البسطاء منهم بقيم الدين وثوابته الكبرى. لم يتلق أي تعليم رسمي حسب علمي ولكنه كان من أحكم الناس ومن أعرفهم بالحياة. كان كريماً لو أتيح له ألا يغلق أبواب داره أمام كل عابر سبيل لما تردد لحظة واحدة. أنزل الله عليه سكينة يشعر بها كل من يلقاه، ولا أذكر أنني رأيته وهو في حال غضب على أي أحد أو عتب على أي أحد في أي وقت من الأوقات. تعلق قلبه بالمساجد فصارت الصلاة محور حياته ينتظرها انتظار الولهان ويحن إليها حنين الشّجيّ. قبل ساعات من وفاته رحمه الله طلب أن يحلق شعره ثم طلب أن تقلّم أظافره ثم طلب الاستحمام ثم توفاه الله بعد بعد ذلك بعد أن نام ساعات قليلة، فما أجمل الخاتمة وما أطيب الحال التي كان فيها متهيئاً للقاء الله. رحمك الله يا أبا مساعد وأنزلك منازل الصديقين والشهداء والصالحين وجمعنا بك ومن تحب ومن نحب في جناته بعفوه وكرمه، وأحسن عزاء أسرتك وعزاءنا جميعاً فيك وإنا لله وإنا إليه راجعون. هَلْ كُفِّنَ الطُّهْرُ أَمْ ذَا أَنْتَ فِي الكَفَنِ يَا مَنْ رَحَلتَ نَقِيَّ الرُّوحِ وَالبَدَنِ ؟ وَمَنْ تُرَى فِي ظَلامِ الّليلِ فِي دَعَةٍ مِنَ المَلائِكِ سَلَّ الرُّوحِ بِالوَسَنِ ؟ أبَا مُسَاعَدَ وَالأعْمَارُ فَانِيَةٌ هَا قَدْ رَحَلتَ إلى الرَّحمَنِ ذِي المِنَنِ وَكَمْ تَرَقَّبْتَ هَذَا اليَوْمَ فِي شَغَفٍ فَمَا شُغِلتَ سِوَى بِاللهِ مِنْ زَمَنِ وَمَا لَقِيتُكَ فِي عُسْرٍ وَلا رَغَدٍ إلاّ وَكُنْتَ بِحَمْدِ اللهِ فِي شَجَنِ رَحَلتَ يَا سَيِّدِي رُوحَاً مُعَطَّرةً نَقِيِةَّ مَنْ دَنَايَا الحِقْدِ والإِحَنِ وَكاَنَ عَيْشُكَ سِلمَاً مَا أَلَمَّ بِهِ سِوَى المَكاَرِمِ فِي سِرٍّ وَفي عَلَنِ أَبَا مُسَاعَدَ وَالحُبُّ الذي غُرِسَتْ أَوْتَادُهُ فِي شَغَافِ القَلبِ كَالُّلدُنِ يَهُزُّنِي فَيَزِيدُ النَّارَ فِي كَبِدِي وَيَمْزُجُ الوَجْدَ في الأضْلاعِ بالحَزَنِ أَنَّى أُجَازِيكَ عَنْ فَضْلٍ مَنَنْتَ بِهِ عَلَىَّ أَضْحَى كَأشْجَانِي يُطَوِّقُنِي أَهدَيْتَنِي يَا زَكَيَّ النَّفْسِ مُؤمِنَةً هِيَ العَزَاءُ فَرُوحُ الجِذْعِ فِي الغُصُنِ وَأسْرَةً مِنْ كِرَامِ الخَلقِ مَحتِدُهَا فِي مَنْبَعِ النُّورِ لَمْ تَبْطُرْ وَلَمْ تَهُنِ عَلَيْكَ كُلُّ سَلامِ اللهِ مَا بَرَقَتْ سَحَائِبٌ وَتَتَالى صَيِّبُ المُزُنِ وَطِبْتَ فِي كَنَفِ الرَّحمن يا ألقاً مِنَ النَّقَاءِ سَيَبقَى بَهْجَةَ الزَّمَنِ