عبدالحكيم هارون، شاعر مصري محدث، مجدد,, حاول وسعه أن ينقل للمتلقي العربي واقع مجتمعه الصغير، بخصوصياته المحضة، وشؤونه وشجونه الدقيقة,, وهو عبر ذلك النقل، يصور لنا شعراً، حال ذلك المجتمع الصغير، وقضايا وطنه الكبير مصر بل يكاد يلامس وربما فعل ايصال أفكاره ورؤاه المحلقة في فضاءات الأدب السامي واجواء الفن الرفيع، لغةً سهلة الهضم، سلسلة القياد، وبحوراً خفيفة الجرس تتماشى وهذا الزمان الذي لا يكاد يستقر على حال، ولا يرتاح لإنسانه بال، جرّاء ركضه الدائب. وقد أجال شاعرنا هارون وأنعم النظر عن اليمين وعن الشمال وأمامه ومن خلفه وأسفل منه، فما وجد غير الشعر التقليدي العمودي يبني على قواعده أفكاره ورؤاه، فهو الأس المتين الذي نشأت عليه كل أشكال القريض الذي عرفه العرب على امتداد الحقب الأدبية من لدن امرئ القيس واضرابه، مروراً بالشاعر الغائب الحاضر المتنبي وصولاً إلى المجددين الروّاد: البارودي وشوقي ومطران والجواهري والسياب والبرودني، وانتهاءً بالعلامة الفارقة نزال قباني ,. وكان الذوق العربي تأثر بنمط الحياة لدى الفرس والروم، كنتيجة حتمية لاختلاط العرب بهاتين العرقيتين وأخذوا عنهم أسلوبهم في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومسكنهم. ثم كان ما أعقب ذلك من فتح العرب بلاد الأندلس، وما أدى إليه ذلك الفتح من ذوبان الشخصية العربية في بوتقة الكيان الإسباني والأخذ بأسباب الحياة المتباينة ومنها فن الشعر، ومستوى الفكر,, فولدت الأندلسيات التي تأثر بها البعض لاحقاً. يلي ذلك حركة الترجمة التي نشطت في اعقاب الحملة الفرنسية على مصر في عصر الخديوي اسماعيل باشا، وما نتج عن تلكم الترجمة من نقلة كبرى في مستوى الحياة بمصر خصوصاً وما حولها من الدول على وجه العموم. وشاعرنا الذي يستأثر بهذه المساحة من الصفحة أحد ابناء مصر الأوفياء لتراثهم العريق، الذين لا يجدون سلواهم، ولا استئناس أرواحهم في غير ذلك التراث الذي يمثل عندهم البوابة الرئيسة لدخول فناء المعرفة الواسع,. وكان أحد آثر الاصدقاء لديّ، وهو رفيق الطريق وزميل المهنة الأستاذ أحمد الدميري، كان أهداني إضمامة تحوي بضعة نصوص شعرية للأستاذ عبدالحكيم عبدالوهاب هارون بغرض النظر فيها، وإبداء رأيي المتوضع فيما تتضمنه تلك القصائد من معانٍ: ظاهرة أو خفية,, وكنت توجست بادي الأمر شيئاً وتحججت، ولي الحق في ذلك، بدواعٍ منها انفلات زمام الوقت الذي كنت أقضيه وقتها ما بين صلاة التراويح وتوفير لوازم المنزل التي تكاد لا تنقضي وكنت حتى أيام قليلة سبقت، أتابع عن كثب مجرى اختبارات الأبناء التي تجاوزناها ولله الحمد والمنّة بأمن وأمان، وبأقل ما تكون الخسائر المادية والعينية. ثم إني رجعت لنفسي، وأنشأت أحضُّها بصوتٍ عالي النبرة: فيمَ التكاسل، ولمَ التواكل، وكل ما في عالم اليوم يركض ويركض يركض حتى لتكاد لا ترى على امتداد أمدائه كسلان خاملاً,. وعزمت على امتشاق الحسام القلم والتعامل مع القرطاس محاولاً سبر أغوار عوالم عبدالحكيم الخفية، ودنياواته القصية,, وسأحاول عبر ما يلي من سطور تقديم ما عنّ لي، وطوّف بخاطري من رؤى فنية، حول ما جادت به قريحة الشاعر الذي أجدني أحسده على جمعه ما بين أشتات متناقضات: الهندسة، الشعر، فن الرسم إلى جانب التعامل الراقي مع تقنية الكمبيوتر ذي النوافذ المتعددة والشرفات الواسعة,, وهو ليس بدعاً في ذلك، فقد سبقه في الجمع بين الادب وغيره - على سبيل المثال - مواطناه إبراهيم ناجي الطبيب وعلي محمود طه المهندس والسوداني المحجوب الذي درس الهندسة المعمارية واشتغل بالقضاء والمحاماة ورأس الوزارة وقاد المعارضة لأكثر من مرة,, والانجليزي سومرست موم الذي درس الطب وانصرف عنه للأدب. عزيزي القارئ : إنني بإزاء عشر قصائد للشاعر، كلها يتسم بوحدة الموضوع، ويتميز بوضوح الغرض وديناميكية التعبير مما يعني عندي تمكن الشاعر من أدوات الشعر، وأنه نهل منذ يفاعته من معينه الثر واعتاد ورود ينبوعه الصافي، ودرّب نفسه على التعامل وعلوم وآداب العربية ذات الروافد المتجددة,. وأبدأ حسب النظام التراتبي لما كتبه الشاعر، بقصيدة أهلاً وهي من بحر مجزوء الرجز الذي يصلح لأن يكون ضمن منهج الصفوف المتأخرة من المدارس الابتدائية، أو المتوسطة على أعلى تقدير. يقول الشاعر في عبارات رقيقة، محكمة السبك، تتلألأ نوراً وتتجلى بحوراً، على لسان الطالبات وهن يخاطبن معلماتهن فيما أحسبه بداية العام الدراسي: أهلاً بأمهاتنا أهلاً بمشرفاتنا اليومٌ نلتقي معاً على الوفاء والمنى يومٌ جميلٌ باسمٌ ازداد فيه نورنا البشر في وجوهنا والحب في قلوبنا فالعلم فيه نفعنا وفي الحياة زادُنا وفي نقلة سريعة يفتحن أذرعتهن، والصدور,, مرحبات بالمعلمات في دار العلم: بيتهن الثاني,. أهلاً بكنّ بيننا في بيتنا الثاني هنا ويختمن حسب الشاعر بدعاء الله جلّت قدرته، أن يعينهن على الاستزادة من تحصيل العلم، وأن يحفظ لهن دينهن الحنيف، فهو عصمة أمرهن، ووطنهن الذي يفدينه بالأرواح والمهج الغوالي: ندعوك ربي كن لنا عوناً وزدهن هَنَا وزد إلهي علمنا أنر به طريقنا واحفظ علينا ديننا واحفظ لنا بلادنا هذا، وهنالك اشارتان خفيفتان، أولاهما وردت في قول الشاعر: ندعوك ربي كن لنا عوناً,, وزدهن هَنَا أي وزدهن هناء بتخفيف همزة الكلمة لتناسب القافية، وثانيهما توظيف الشاعر للقاعدة الثابتة العلم نور في قوله: وزد إلهي علمنا انر به طريقنا كل ذلك أتى كما اسلفنا في كلمات سهلة التركيب، سلسة القياد، يسيرة الحفظ على العقول المجردة. ومن بحر المتدارك مع بعض العلل يتناول الشاعر في قصيدته أخواتي مشهداً مؤثراً لختام العام الدراسي، على لسان إحدى الطالبات وقد جاشت نفسها بأسمى معاني الاستفادة من العلم حتى لتوشك دموعها أن تهطل على خديها، لما يعتمل في صدرها الصغير من مشاعر الود والألفة التي تربطها بمعلمتها التي يتجاوز دورها في حياتها العملية مجرد الناحية التعليمية إلى آفاق رحبة من العطف، والإيثار، والأمومة الحانية,. فهو يقول مواصلاً المخاطبة على لسان تلك الطالبة كما أسلفنا الحديث: إلى لقاءٍ إخواتي بسلامٍ في العام الآتي ها نحن قرأنا وكتبنا علماً ينفعنا وعظات وحفظنا قرآناً يُتلى وكذا تفسير الآيات فعلوم الدين تبصِّرُني تُفهِمُنى ديني وصلاتي وتقول معلمتي دوماً أنتن بمنزلة بناتي فالمعلمة تحاول جهدها، وتبذل ما تستطيع من طاقة مختزنة، لإيصال المعلومة وفق أصح وأدق الوسائل العلمية، لأفهام الصغيرات: تعطينا العلم تفهّمنا وتبسّطه بروايات وتساعدني ,, وتساندني وتوجّهني لقراءاتي تشرح صدري,, تُضحك سنّي وتحقق لي حلم حياتي ويصل بها الأمر حدَّ أن تتعطل عندها لغة الكلام، فتنوب عنها العبرات، ودمعات ساخنات,, ويتمخض عن هذا، أن يأتي قولها ضعيفاً، خافت النبرة: فسألقاكن رفيقاتي وسأكملُ سردَ حكاياتي الآن دموعي تغلبني وشفاهي ترسم بسماتي * لاحظ : تلاقي الحزن والفرح في دواخل الطالبة وبين جوانحها,, وهو تفسير منطقي لحيواتنا نحن ابناء وبنات آدم وحواء، تلك الحيوات التي لا تخلو بحالٍ من اقتران الأمرين: أحدهما بالآخر، واتجاههما كليهما في خطين متوازيين وصوب ذات الهدف. وفي تكرار مليح القسمات، وبما يشبه نهاية مشهد لاحدى المسرحيات، يجيء احتفاء الطالبة بصويحباتها من الاعماق، في تعبير صادق الشعور في غير مداهنة او مراءاة لا تعرفهما أصلاً اخلاق طفل صغير: ولهذا الجمع تحياتي ولهذا الجمع تحياتي ولهذا الجمع تحياتي ولهذا الجمع تحياتي ولهذا الجمع تحياتي ولهذا الجمع تحياتي أما قمة التصويرالفني، وقنته البعيدة المنال، فتبدو جلية فيما تجسده للعيان مشاهد الرائعة الوهم وقد ذكّرتني كثيراً أساطين التصوير الفني في عالم الشعر: ابن الرومي والبحتري ومن جاراهما، ولفّ لفهما، كما أنها أعادت لي ذكرى أربعين عاماً أو يزيد قليلاً، حيث لا أنسى ونحن بمقاعد الدراسة الابتدائية قصيدة عنوانها اسماعيل والقط أختار منها: جاء اسماعيل تبدو بسمةٌ في شفتيه حاملاً صحن طعام ورغيفاً في يديه جاءه قطٌ أليفٌ ومشى بين يديه رافع الذيل بشوشاً حاني الظهر عليه قال إسماعيل لما نظر القط إليه: يا صديقي أنا أدري بالذي تسعى إليه فهي من ذات البحر وتحظى بما تحظى به رصيفتها الوهم من جودة التصوير وبلاغة التعبير. وإذا تأملت معي أيها القارئ الكريم الفقرة التالية من ذلك النص، فسيعجبك ويأسرك حتماً، ما أعجبني وأسرني، وملك عني نفسي وسائر خوالجي: إن رأى قوماً,, توارى في حياءٍ,, وخجل دائماً يمشى وحيداً ليس يغريه العمل واهمٌ ,, أنّى يلاقي كان للوهم,, محل زاده الوهم نحولاً وخيالاً ,, ووجل ما سبق ذكره، مشهد لذاك الواهم البائس,, وفي مشهد آخر يصوره الشاعر ، في محاولة جادة منه لتقريب صورته إلى رؤانا، يصوره كالآتي: إن مشى عصراً بصيفٍ لا ترى في الأرض ظل أو مشى في الحيِّ ميلاً تاه في الحيِّ وضل جرّب القفز,, برجلٍ مالت الرجل,, وزل وهو في مشهد ثالث يبدو للعيان، خيال إنسان فحسب أصاب العيّ والحصر عقله في مقتل، فهو كما يلي، نتراءى هيئته: وأتى يخطب يوماً لم يقل شيئاً,, وملّ لو رأى حفنةَ رملٍ ظنّ أن الرمل,, تل أو صخيراتٍ بدربٍ حسب الصخر جبل أو رأى طيناً طريّاً زاده ماءً ,, وبلّ ويزيدنا حيرة في غرابة أطواره، إذ يقول في وصف حال شاعرنا: أو جرى تحت رذاذٍ غمر الجسم البلل أو رأى في البرّ ذئباً حسب الذئب حمل أو رأى طفلاً رضيعاً حار فيه,, وسأل أو رأت عيناه قطّاً صاح فيه ,, وحمل وهو على النقيض تماماً مما هي عليه حال الأسوياء: لو حسبناه بعيداً إذ به رأساً أطلّ أو ألفناه قريباً غاب عنا ,, ورحل إن دعوناه ,, أتانا مثل طيفٍ ,, لم يزل ترك الأكل ,, عزوفاً ومن الماء,, نهل والمحصلة النهائية: إنه وهمٌ عجيبٌ هكذا الوهم فعل وضمن تجوالنا الهادئ مع شاعر الطفولة البريئة إن صحّ التعبير تستوقف خطانا قصيدة (كانت أياماً) بتلقائيتها المحضة وبما يتخللها من عفوية الصغار في حركاتهم وسكناتهم,, ومن عجب ان تلك القصيدة عادت بي القهقرى إلى سنوات الشباب الباكر، وكنت دون العشرين، وكان ضمن ما كتبت في بواكير الانتاج، قصيدة بذات العنوان (كانت أياماً) قرَّ رأيي فيما بعد أن يكون ديواني الأول إذا أمكن بحول الله وقدرته صدوره، حاملاً اسمها,. ولا نذهب بعيداً، ونحن نقلّب أوراق الماضي عبر ديوان (أغاني الحياة) لشاعر الحرية أبي القاسم الشابي ونختار قصيدته عن ذكريات الطفولة، التي عاشها الشابي طولاً وعرضاً,, ومنها: كانت أرقّ من العبير ومن أغاريد الطيور فضيّة الأسحار مذهبة الاصائل والبكور ايام لم نعرف من ال دنيا سوى مرح السرور وتتبع النحل الأنيق وقطف تيجان الزهور ونعود نركض خلف أسر اب الفراش المستطير إلخ هذه القصيدة الضاجّة بكل معاني الحياة، ذات التعبير الدافئ الذي يفصح في كل واحدة من مفرداته، عن صدق احساس الشاعر تجاه شخصه ، وتجاه الآخرين من حوله. عزيزي القارئ: لما في القصيدة السابق ذكرها مما أوردنا، ولما فيها من خطاب مباشر من الشاعر للمتلقي، حتى ليكاد أيّ امرىءٍٍ يحسب أن الشاعر إنما يخاطبه دون سواه من البشر، أقول: ما أشبه هذه بتلك، بل ما أشبه تلك وأختها بشاردة فيلسوف المحيدثة إيليا أبو ماضي وطن النجوم الرائعة التي يزيدها تقادم الأيام بهاءً ورونقاً وصفاءً وعذوبة,, ومنها لتشنيف الآذان الحساسة: وطن النجوم أنا هنا حدّق ,, أتذكر من أنا؟ ألمحتَ في الماضي البعيد فتىً غريراً أرعنا جذلان يمرح في حقولك كالنسيم مدندنا المقتنى المملوك ملعبه وغيرُ المقتنى! يتسلق الأشجار لا ضجراً يحسُّ ولا ونى ويعود بالأغصان يبريها سيوفاً أو قَنا ويخوض في وحل الشتاء مهللاً,, متيمنا لا يتقى شرَّ العيون لا يخاف الألسنا ولكم تشيطن كي يقول الناس عنه تشيطنا *** أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ههنا! أنا من مياهك قطرةٌ فاضت جداول في سنا أنا من ترابك ذرّةٌ ماجت مواكب من مُنى أنا من طيورك بلبلٌ غنّى بمجدك فاغتنى حمل الطلاقة البشاشة من ربوعك للدُّنى هذا,, ولو كان الأمر بمكنتي لأوردتها كاملة، لما فيها من فنيات وتجليات، ولكنه ضيق الحيز رغم اتساعه وحؤوله دون إتمام امتاعك ببقية أبياتها. وأختم بالقول: إن كل ما تناوله القلم في السطور السابقة، يتضاءل قامةً أمام الشعر التعليمي لأمير الشعراء أحمد شوقي ,, لا إنقاصاً من حقوق المذكورين آنافاً، وفيهم شاعرنا ,, ولكن إحقاقاً للحق، ووضعاً للأمور في نصابها أقول بهذا، راجياً أن ينعم شاعرنا عبدالحكيم النظر ويجليه في شعر شوقي التعليمي بخاصة، فعساه يفيد من ذلك العملاق فيمكنه بذلك سدّ الثغرات التي تتخلل شعره,. وإلى لقاء جديد يكون لنا فيه بعض التصور لقصائد أخرى لالشاعر .