كان يسود بين أهل الجزيرة العربية عاملان متنازعان؛ نزعة انفصالية تغذيها رغبة كل مدينة وكل قبيلة في الاستقلال والاحتفاظ لنفسها بمواردها المحدودة ومقدراتها الشحيحة تقابلها نزعة نحو الاندماج والتوحد لما يحققه ذلك من استقرار وسلام يساعد على ازدهار الزراعة والتجارة وتنمية الموارد وتأمين الطرق وحفظ الأرواح والممتلكات, الفراغ السياسي الذي ينجم عن غياب السلطة المركزية يؤدي بطبيعة الحال إلى تعدد مراكز القوى، قبلية وحضرية، التي يحاول كل منها جاهدا الاحتفاظ باستقلاليته وتوسيع نفوذه, أما القرى الصغيرة والقبائل الضعيفة فإنها تصبح مسرحا لهذه القوى المتصارعة التي يحاول كل منها بسط سلطته عليها وإخضاعها واستغلال مواردها, في مثل هذه الأوضاع يصبح البدو عادة هم أصحاب اليد العليا ويسود قانونهم وشرعتهم مشكلين بذلك خطرا حقيقيا يهدد الفلاحين في قراهم الصغيرة المعزولة المتناثرة في الصحراء, ومما يسهّل عليهم ذلك طبيعة حياتهم المتحركة وممارستهم للغزو بشكل مستمر وما يملكونه من عدة الحرب ووسائل النقل مثل الإبل والخيول وقدرتهم على حشد أعداد كبيرة من المحاربين من أبناء القبيلة الواحدة, في هذه الحالة تضطر القرى الضعيفة إلى دفع إتاوة (خاوه) للبدو لدفع غائلتهم واتقاء هجماتهم التي قد تتسبب في إتلاف المحاصيل وقطع السابلة وتوقف النشاطات الزراعية والتجارية, والأخاوة في نظر البدوي عار ما بعده عار وذل ما بعده ذل لكنها في نظر الحضري مبلغ زهيد مستعد لدفعه ليوفر على نفسه عناء الحرب ونفقاتها الباهظة. يقول الشاعر نامي بن ثعلي من العضيان من عتيبة معرضا بأهل نفي الذين كانوا يدفعون الخاوة للعضيان: حط الاخاوه يا غميصانِ يا قايد العجلة باذانيها فأجاب الشاعر عبدالله بن سبيل أمير نفي قائلا له إننا نرمي لك عرموشا مثل الذي نرميه لكلب الغنم الذي يحميها من الذئب: أعطيك شلوٍ مثل سحمانِ تنبح ورا القريه وأهاليها والبدو لا يفرضون الخاوة على القرى فقط بل كذلك على القبائل الضعيفة, كما أن المدن القوية أيضا تفرض على القرى الاضعف منها دفع ما يسمونه العشير, فهذا حميدان الشويعر يقول عن قرية الداخلة: وأهل الداخلة النواصر خاطرهم مقطوعٍ ظهَره ابن ماضي راع الروضه ياخذ منهم ربع الثمره وله قصيدة أخرى وجهها إلى أمراء وثيثه يقول فيها إن ضعف جدّهم لهّس العنقري، أي جرّأه، أن يأخذ منه (حلاوي نماه) اي ما تغلّه نخيله من التمور: جدّكم رَخمةٍ ماكرٍ للطيور لهّس العنقري، كَل حلاوي نماه ويقول محمد بن سعود بن مانع الملقب هميلان في قصيدته العينية المشهورة التي يسجل فيها نجدته لبني عمه العبادل في وادي بريك ضد آل عايذ ويبين أن العبادل كانوا يدفعون لآل عايذ جزءا من تمورهم اتقاء لشرهم: نزلنا بها والعبدلي كان قبلنا لطيب الجنا منهل لذيذ النوايع يهديه لاشرارٍ مدارات شرهم ومن بَرّ خوف الشر فالبِر ضايع وهناك قصائد لرميزان بن غشام يفتخر باستقلالية الروضة تحت قيادته، وللشاعر زيد الخشيم قصيدة في ديرته قفار يستهلها بالافتخار بأن قفار، بخلاف غيرها من القرى الأخرى، من القوة بحيث لا تضطر إلى شراء الحماية عن طريق دفع الأخاوة أو العشير: لي ديرةٍ سمر الغرايب قباله بشرقيّ اجا يازين زمّة حيوره بالسيف حامينه دَوالي رجاله من كل طمّاعٍ يبي من عشوره قيام إمارة حضرية قوية وقادرة على الحفاظ على استقلال الإمارة ضد القوى الأخرى وعلى صد عدوان البدو يتطلب كثافة سكانية وكذلك توفر الفائض الإنتاجي من أجل تحقيق الثروة اللازمة لتشكيل قوة ضاربة وتجهيزها بما يلزم من السلاح ووسائل النقل والاتصال, ومما يساعد على ذلك وقوع قاعدة السلطة على مفترق طرق الحج والتجارة، وكذلك توالي سنوات الخصب والمطر وتوفر الماء في الآبار وازدهار الزراعة, وقد تتوفر الظروف الملائمة لمدينة من المدن في فترة من الفترات ثم تتغير الأحوال فتنضب موارد المدينة وتضعف الإمارة فيها نتيجة أسباب داخلية كأن تتوالى عليها سنوات الجدب أو يعم الوباء أو نتيجة ظروف دولية كأن تتحول طرق الحج أو التجارة أو تظهر اختراعات جديدة تحدث انقلابا في وسائل النقل والمواصلات. وكما هي الحال في أثينا القديمة أو أسبرطة، يشكل التجار في هذه المدن المستقلة، وبالتحديد تجار عقيل، طبقة أوليجاركية تلعب دوراً مهماً في تشكيل سياسة المدينة ورسم علاقتها مع القرى والمدن المجاورة والقبائل القريبة أو تلك التي تمر عبرها قوافلها التجارية، وكان لهم تأثيرهم البالغ في توجيه سياسات الأمير لأنه في الواقع اعتلى الإمارة بموجب تعاقد ضمني أو صريح مع هذه الطبقة بالذات يلتزم بموجبه برعاية مصالحها مقابل الحصول على دعمها ومساندتها, وهذا ما تشير إليه قصيدة الشاعر محمد العبدالله القاضي التي يفتخر فيها بديرته عنيزة التي تستحق منا وقفة قصيرة, تؤكد الرواية الشعبية أن القاضي بعدما قال قصيدته المشهورة التي امتدح فيها طلال بن رشيد ومطلعها: طلال لو قلبك حجر أو حديدي، غضب عليه الأمير زامل السليم لأنه اعتبر أن مدح القاضي لطلال بن رشيد، عدو عنيزة اللدود، خيانة لا تغتفر, عندها قال القاضي قصيدته في عنيزة لكنه لم يعتذر من الأمير زامل ولم يمدحه بل مدح المدينة ورجالها لينفي عن نفسه تهمة عدم الولاء لوطنه كما يشير إلى ذلك البيت الأخير من القصيدة، وكذلك ليثير نخوة أولئك الرجال لينصروه أمام جور الأمير وذلك بتذكيرهم بأنهم هم أصحاب القوة والنفوذ والثروة والجاه وأن الأمير بدونهم لا يستطيع أن يفعل شيئا, القصيدة ليست قصيدة مدح، إنها قصيدة فخر لأن الشاعر يعتبر نفسه من الطبقة التي يتحدث عنها في قصيدته, ويبدو ان خطة القاضي نجحت واستمرت الضغوط على زامل من وجهاء المدينة الذين أعجبتهم القصيدة حتى اضطر إلى استدعاء الشاعر ليطيب خاطره ويكافئه على القصيدة, حضر القاضي وقال له زامل: اطلب ما تشاء مكافأة على قصيدتك العصماء في بلدك عنيزة, أجاب القاضي: اللي أبيه يا زامل إنه إلى جا الديرة ضيوف ما يَعَقبَن عليهم بعدك أحد، إلى ضيّفتهم أنت أضيّفهم أنا بعدك, هذا تأكيد على انتماء القاضي للطبقة الارستقراطية التي يفتخر بالانتماء إليها في قصيدته, كذلك أراد القاضي أن ينفي عن نفسه الحاجة إلى عطاء ابن رشيد، وهي تهمة حاول زامل أن يلصقها به, تقول الرواية الشعبية إن قصيدة القاضي في مدح طلال بن رشيد وقعت في يد زامل فأضاف إليها هذا البيت بقصد تشويه سمعة القاضي وتصويره كما لو كان يستجدي ابن رشيد, يقول البيت: يا شيخ انا طالِبك مِيّة مجيدي مع مشلحٍ يا شيخ انا مشلحي ذاب ونلاحظ أن القاضي في قصيدته، مثله مثل زيد الخوير في قصيدة أشرنا إليها سابقاً، لم يمدح حاكماً ولا أميراً, كان يفتخر برجال عنيزة، نخبة من المواطنين، جِماعِه، بل قل طبقة أرستقراطية، هو من بينهم، طبقة من الشجعان المحاربين ومن أصحاب الرأي ومن القادرين على البذل والكرم, يستهل القاضي قصيدته بأبيات يطلب فيها السقيا لديرته ثم يقول: يسقي مفالي ديرةٍ ضَمّ جالَه ما يعجب الناظر بشوفه ويهتال بِرباه حور العِين يسحر جماله وحماه هو مربى الجوازي والاطفال دارٍ لنا وادي الرمه هو شماله غربيّه الضاحي وشرقيّه الجال في روضةٍ شِرف المباني قبالَه لجّة غروسَه دايره تِقِل تِفصال غين وبساتينٍ ظليلٍ ظلاله مِتمايلٍ كالدوح شامله الاقبال فسايلٍ كالتين ياحَيّ فاله وفواكهٍ فيها الثمر والحِمِل مال كالليل والا الحشر لجّه محاله ما ها ومرعاها مِرِيٍّ وسلسال دارٍ لنجد مشَرّعٍ كم عنى له راجٍ ومحتاجٍ ولاجٍ ونزّال الضيف هو وايا الضعيف ارتكى له كرام النفوس اهل القواعد والافعال دارٍ يجِير الجاربَه من جلالِه وَفقٍ من الباري بها عز واقبال دار الندى دار السعد والشكاله ما ساقت الخاوه للاول ولا التال حَمَوا حماها بالمراجل رجالَه لين اوحشوا من جا لجاله بالافعال صالوا وصادموا الدول دون جاله بحَربٍ وضربٍ يِسنِد العايل ان عال برايٍ وتدبيرٍ وعقل وصِمالِه وصبرٍ وتقديمٍ وتوخير الاحوال بعَزمٍ وجَزمٍ كان هَمَّوا بقاله ماثَمَّنَوا أو طاعوا شور ذلال فان برِكَوا للراي شالت خماله زمل التخوت اللي يشيلون الاثقال شالَوا حمولٍ ما يراوَز مِشالَه العفو ما اصبرهم على كل الاحوال أخيار واشرارٍ إلى جا مجاله عِقّال في حالٍ وفي حال جِهّال عدامٍ شَغاميمٍ كرامٍ سبالَه هم سورَها وحماه كان الوحل حال يعجِبك مرباع الغميس ان غدى له نَوَّر بنَوّارِه وبازهاره اشكال ما حدّر الوادي وغرب وشِماله من وادي الروضه إلى خشمه العال ومقياظها حد الوعر من سَهاله رامه ومهرِه والبريقا إلى الجال أمٍّ لنا من عَقَّها من عياله عدم البصر والسمع والمال والحال إذا أمعنا النظر في التاريخ السياسي لشبه الجزيرة العربية تأكد لنا ما سبق أن ذكرناه من تناظر البداوة والحضارة وتوازنهما ثقافيا واجتماعيا, مثلما يمكن لمدينة، أو قاعدة حضرية، أن تنمو وتزدهر في ظل الظروف المواتية لتصبح دولة تبسط سيادتها على مناطق شاسعة من الجزيرة، كذلك يمكن للقبيلة أن تتحول إلى دولة دون أن تمر بمراحل تطورية وتتدرج من البداوة إلى التحضر ثم الدولة, لكن، بطبيعة الحال، لابد للدولة متى ما قامت من قاعدة حضرية, هذا يأتي بشكل ملازم لنشوء الدولة ومتزامن مع قيامها وليس سبباً ضرورياً سابقاً لقيامها, الإمارات والمشيخات التي توالت على الجزيرة العربية قامت شرعية البعض منها على أساس مدني حضري بينما قامت شرعية البعض الآخر على أساس قبلي مثل دولة الجبريين ودولة آل حميد ودولة آل رشيد, ولقد كاد ابن شعلان حديثاً أن يؤسس لقبيلة الرولة دولة مركزها الجوف, وسواء كانت الإمارة أساسها قبلي أو حضري فإن قوتها مرهونة بقدرتها على استغلال وتسخير الموارد البشرية والمادية من الحضر والبدو على حدٍّ سواء ودمج الإنتاج الرعوي والإنتاج الزراعي في نظام اقتصادي متكامل.