بينما كان هذا المقال تحت الاعداد، ضمن هذه السلسلة التي ظهرت أُولى حلقاتها في هذه الجريدة قبل عام، جاءت ذكريات فضيلته التي تنشرها جريدة الوطن من عدة حلقات، لتؤكد فكرة المقال وعنوانه. لكن هذا المقال لا ينحصر محتواه بالصلة القديمة للشيخ ابن جبير بمجلس الإعلام، لكنه يتناول روابط أخرى لا تقل أهمية، بين الشيخ ومسيرة الإعلام السعودي بشكل عام، وقد أفصح عن بعضها في ذكرياته، وبقي باقيها طي الخفاء حتى الآن، مما سيعمل هذا المقال على كشفه وإبرازه. فمن الأمور التي ذكرها فضيلته في سلسلة ذكرياته مسألة اختياره من قبل سماحة مفتي المملكة آنذاك (الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله) ليكون عضواً مؤسسا في مؤسسة الدعوة الصحفية، التي أنشئت في عام 1384ه وأصدرت وما تزال، مجلة الدعوة التي كان الأستاذ عبدالله بن إدريس أول رئيس تحرير لها، بينما يرأس تحريرها حاليا الأستاذ عبدالعزيز العيسى. ومن الأمور التي ذكرها فضيلته في سلسلة ذكرياته، اختياره عضواً في لجنة التخطيط الإعلامي، التي تعد النواة الأولى للمجلس الأعلى للاعلام (الحالي). والمعروف أن هذه اللجنة العليا، كانت قد كُوِّنت بتاريخ 1/8/1378ه برئاسة وزير الإعلام آنذاك الشيخ جميل الحجيلان وعضوية كل من وكيلي وزارة الاعلام، ووكيلي وزارتي المعارف والداخلية، وعلي النفيسي (من الديوان الملكي) والشيخين عبدالعزيز المسند وسعيد الجندول، بالاضافة الى الشيخ محمد بن جبير. ولم يقدَّر لهذه اللجنة أن تستمر طويلا لكنه لم يصدر ما يلغيها، وقد بقيت على تلك الحال مدة تقرب من عشر سنوات، إلى أن أُعيد تشكيلها بتاريخ 14/6/1396ه برئاسة وزير الإعلام الأسبق (د, محمد عبده يماني)، وعضوية وكلاء وزارات الإعلام والداخلية والخارجية والتعليم العالي، ود, عبدالله التركي ود, أحمد الضبيب ود, حسن أبوركبة والأستاذين عبدالعزيز الرفاعي وعبدالله بن خميس، بالاضافة الى الشيخ ابن جبير. وقد عقدت هذه اللجنة ما يقرب من عشرين اجتماعاً، واقترح وزير الاعلام ان يغيَّر اسم اللجنة الى الاسم الحالي (المجلس الأعلى للاعلام)، وفي تاريخ 12/9/1401ه أعيد تشكيل المجلس برئاسة سمو وزير الداخلية (الأمير نايف بن عبدالعزيز) وهو أساس تشكيله الحالي الذي يتكون من 13 عضواً، بمن فيهم الشيخ ابن جبير (بصفته الشخصية)، وبهذا يكون هو أقدم أعضاء المجلس وأطولهم في فترة العضوية، ويكون قد اختير لعضوية المجلس في مراحله الثلاث، ولاشك أن مشاركة شخصية بمثل مكانته العلمية وبمثل فهمه وكفاءته واتزانه تعدُّ مكسباً كبيراً للإعلام وأهله، وهو ما لمسناه من خلال تعامله مع عدد من القضايا الإعلامية التي كانت تحال إلى المحاكم أو يؤخذ نظره الشخصي حيالها. ثم كان للشيخ محمد صلات وثيقة أخرى لم يفصح عنها في ذكرياته المنشورة، وهي روابط لا تقل أهمية عن الأولى، وقد لا يعرف عنها إلا القليلون، وذلك لأن صورة الشيخ محمد قد ارتبطت في أذهان الكثيرين بالوظائف العدليّة التي تقلّدها (القضاء، ديوان المظالم ونحوهما) وباختياره منذ ثماني سنوات رئيساً لمجلس الشورى. لقد عايش على سبيل المثال إرهاصات إنشاء افتتاح التلفزيون في احدى مناطق المملكة، التي سبق انطلاقته فيها شيء من التحفظ من قبل بعض طلبة العلم، فمنهم من سجل موقفه في شكل رسالة علمية، ومنهم من شارك في المناسبة بعدما تبين له أنه وسيلة تستثمر للدعوة والتثقيف والتوجيه كما يمكن أن تستغل لغيرها. ثم كان الشيخ ابن جبير قبل ذلك وبعده أحد من أسهم بأحاديث صحفية وإذاعية وتلفزيونية في عدد من المواسم والمناسبات، كما شارك في مقابلات برنامج مجالس الايمان التلفزيوني المعروف، وخلال عهدي الملك فيصل والملك خالد رحمهما الله، كان له من خلال عمله في ديوان المظالم دور في التحقيق في عدد من قضايا النشر، مما ظهر في الصحافة آنذاك في شكل تُهمٍ موجّهة لمسؤولين، أو في شكل كتابات تتضمن مبالغات أو إثارة صحفية تنطوي على اتهام جهات حكومية بالتقصير، أو في شكل كتابات لا تخلو من شطط فكري، فكان فضيلته يغلّب حسن الظن ويتروّى في تأويلها وتفسير نوايا أصحابها، كما قدم فضيلته، من خلال عضوية المجلس الأعلى للإعلام المشورة بشأن ما يحال إليه من كتب أو أبحاث لمعرفة رأيه فيها من زوايا شرعية أو اجتماعية أو تربوية، كما نظر في عدد من القضايا الفكرية التي كانت تحال اليه بمفرده أو بمشاركة آخرين، وكان بعضها يخص شخصيات مثقفة معروفة. وقد ساعدت مواقفه المتروّية في حماية العديد من الكتّاب ومساعدتهم في العودة الى الحق، واحتواء القضايا والحالات، وعدم تصعيد الأمور وتغليب المصلحة العليا للوطن وتهدئة الأمور. لقد كان فضيلة الشيخ محمد أخاً كبيراً متفتّحاً سمحاً، يهرع إليه المنفّذون الاعلاميون، في كل ما يعترض طريقهم من ظروف، يسترشدون برأيه، وينشدون عنده المشورة والنصيحة والتوجيه الأخويّ السديد، وكان يقدّر معاناتهم ومشكلاتهم، ويشاركهم أحاسيسهم، ويتفهّم مواقفهم والحساسيات التي تحيط بعملهم. ومع ذلك لم يكن الشيخ محمد يُجيز كل شيء أو يتسامح في كل ما يُعرض عليه ويُستشار فيه من أمور، ولم يكن يتغاضى عن الحق، لكنه كان مُريحاً في اعتراضه، مقنعاً في حكمه، وهي سمة من سمات العلماء الكبار، ودلالة ثقة وتمكّن وفكر، وعلامة وسطيّة وعقليّة مستنيرتين. كان مما يزيد في تقديرهم لتجاوب فضيلته، تلك الحساسيات المفرطة التي، كما أسلفت، رافقت بدء الاذاعة ثم التلفزيون في المجتمع السعودي عامة، والمواقف المتباينة تجاه ظهورهما من قِبَل بعض شرائحه، بين فئة ترفض مبدأ التعامل مع الاذاعة والتلفزيون، وفئة أخرى تطلب منهما المزيد، ولابد أن مشاركته في برامج التلفزيون آنذاك كانت تواجه بشيء من اللوم من بعض هذه الفئات. كان هناك العديد من المواقف، التي يمرّ بها الإعلامي، مما يحتاج معها أو حيالها الى مشورة خبير، أو رأي شرعي، أو نصيحة مجرب اجتماعي، قد لا تكون كل تلك المواقف رقابية، وقد لا تصل الاستشارة إلى حد الاستفتاء، وقد لا تتطلب رأياً رسمياً أو مكتوباً، وقد يكون بعضها ذا طبيعة فورية. وكان فضيلة الشيخ ابن جبير ونخبة أخرى غيره، قريبين الى إخوانهم الإعلاميين، لا يتردّدون في تقديم ما يحتاجون إليه تجاه تلك المواقف من مساعدة، سواء كانت تلك المواقف ذات طبيعة اجتماعية أو فنية أو علمية أو شرعية، وعادة ما تكون المواسم الدينية، من أكثر المناسبات حاجة للاستعانة بخبرتهم ومشورتهم. أما إذا كان الأمر يتطلب مشاركة في أمر رقابي، فإنهم لا يجدون غضاضة في الحضور إلى حيث يمكن مشاهدة البرنامج المعروض عليهم أو الاستماع إليه، بغضّ النظر عما يكلفهم هذا الأمر من جهد ووقت. لقد اعتمد التلفزيون السعودي، على سبيل المثال، على رأي فضيلته في عام 1385ه في إجازة عدد من الأفلام المصرية واللبنانية التي تروي قصصاً من التاريخ الإسلامي، واستشاره في عام 1398ه في أسلوب فني جديد لعرض آيات القرآن الكريم، وأخذ رأي فضيلته في حدود عام 1400ه في إجازة مسلسل أجنبي يروي صوراً وقصصاً من استرقاق الزنوج وتهجيرهم من أهلهم وموطنهم الأفريقي الأصلي، وقد شاهد الأولى في مبنى التلفزيون، وشاهد الثانية في منزل كاتب هذه السطور، وشاهد الثالثة في منزله، وهو المسلسل الأمريكي الشهير الجذور الذي ظهر في أوائل الثمانينيات الميلادية، حتى إن الشيخ حرص عند زيارته للسنغال قبل عامين أن يتجوّل في جزيرة غوري التي كانت منطلقاً للتهجير القسري للأسرى المستعبدين. لقد كانت علاقة الشيخ ابن جبير مع الاعلام وتعاونه مع وسائله مثالا في تجاوب المسؤول، ينطلق من شعور بالواجب، وتقديرٍ لرسالة علماء الشريعة من ناحية، ووظيفة الاعلاميين من ناحية أخرى، ولا أدل على ذلك من الفائدة الكبيرة التي سيجنيها القارىء من نشر ذكرياته الزاخرة بالخبرة والتجربة والمعلومات والفوائد العلمية والتاريخية. بقي أن تستكمل هذه المعلومات بأخرى عن سيرته الذاتية، وعن مشاركاته مع الشيخ الحركان وغيرهما في الحوار الإسلامي المسيحي في أوروبا حول حقوق الإنسان في السبعينيات الميلادية، وفي حوار الحضارات والشورى، لكن محل تلك ستكون في مناسبة أخرى بإذن الله.