إلى المعلم الكبير الكبير والدي الشيخ/ عثمان الصالح: قلت لي ذات يوم: يابني اطرق باب الأدب، فنحن نقيس الوقت ثانية ثانية، ودقيقة دقيقة لنراك تخوض معمعة الأدب وتقف حيث يجب أن تكون، فالعلماء الأوائل جمعوا بين العلم والأدب، وأنت حفيد هؤلاء العلماء. شيخنا الكبير، من عباد الله من لو أقسم عليه لأبره، وقد أبرك الله وأبر رغبتك، فجعلني استنطق حروف الكلام الخرساء، وأجعلها بإذن الله لسانا ينطق بكلام سيكون رواية هي عصافير الجنة/ أغنية الجوعى ، وسيكون اللسان كلاما، ليحكي لكم ماعيني رأت,, وما أذني سمعت,, وما خطر على قلبي,, هذا البشر, فالحمد لله رب العالمين. *** كانت الركعة الأخيرة في صلاة العصر حين جلست وبدأت أقرأ,,, التحيات لله والصلوات والطيبات,,,، السكون يجالس أجسام المصلين، فيما عدا الرجل الذي يجلس إلى جانبي، يضع يده على رأسه، يسحب طرفي شماغه، مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال ومرة كاد أن يقف قبل أن يسلم الامام, دخلت المسجد ضحكة طفل صغير، ووقفت تتضاحك مسرورة أمام عيني، يتراكض خلفها صرخات صغيرة فرحة لصبية يمرحون, شعرت بالطمأنينة والرضا تقبلان وجهي ويدي, وقفت عيناي على أشعة الشمس وهي تدخل من النافذة المواجهة لي، تهبط بهدوء على سجاد أرض المسجد، توقظ فيها اللون الأحمر من سباته وتحمله بين يديها، تطرق عيني ثم تدخل، يبدأ اللون الأحمر بالركض في رأسي ويتزاحم مع نعاس ملأني بعد أن أكلت كبسة الأرز الدسمة في وجبة الغداء، يا أم عبدالله قلت لك لايجب أن نجهد أنفسنا ونكلفها فوق طاقتها في تزيين هذا البيت فليس من المعقول أن يجهد المرء نفسه في تزيين بيت يسكنه بالإيجار ثم يرحل عنه تاركاً خلفه دم ماله مسكوبا على جدران وأرض ذلك البيت, سلم الإمام عن يمينه ثم سلم عن يساره واستدار وجهه إلينا تملؤه الراحة والفرح, إمام مسجدنا يا ابو عبدالله رزق صباح هذا اليوم بمولود ذكر وهو أول مولود ذكر يأتي بعد أربع بنات, انزلقت أشعة الشمس على السجاد وايقظت اللون الأصفر في خطوطها، حملته بين يديها، طرقت عيناي, الحمد لله,, قام الرجل المزعج الذي بجانبي, طرق أذني صوت جاري أبي محمد من جوار ثالث رجل يفصلني عنه وهو يذكر الله بصوته الجهوري القوي, يا أم عبدالله جارنا أبو محمد رجل مضحك وغريب الأطوار,, أتصدقين,, قصته الغريبة تلك ,, يقول انه سقط وهو طفل صغير في بئر في بيت جيرانهم وعندما أخرجه الناس انطلق يركض ويلعب ولم يمسه سوء,, هل هذا يعقل يا أم عبدالله,, يقول ان جدته التفت إلى الناس وقالت: اتركوه، لن يأتيه شر بعد اليوم,, ولدي هذا مثل قط مخلوق بسبعة أرواح ولن يأتيه شر بإذن الله,, يقول أبو محمد إنه منذ ذلك اليوم لم يشعر بتعب أو مرض أو فزع,, أول مرة شعر بها بالتعب والخوف وكأن روحه تخرج من جسده كانت عندما نزح من أول بيت سكنه بالإيجار,, يقول شعر وكأنه ترك جزءاً من روحه في ذلك البيت وتكرر ذلك الشعور في كل بيت يسكنه بالإيجار ويغادره وفي كل مرة يتذكر جدته حين كانت تدعو الله وهي على سجادة الصلاة أن يرزقها الله بيتا ملكا حلالا ولو بكبر سجادتها تلك,, كان يضحك منها ويقول لها: ياجدة تريدين بيتا كبر سجادة صلاة فقط، وكانت ترد وتقول: إيه يا ولدي ولو كبر سجادة صلاة,, البيت الحلال هو قبر الدنيا ومن ليس له قبر هو مثل الميت المتروك في العراء، قال لي أبو محمد: يا أبو عبدالله هذا البيت السابع الذي أسكنه بالإيجار وان تركته فسوف أموت من القهر,, خلاص يا أبو عبدالله ماتت أرواحي الست ودفنتهم في جدران وزوايا تلك البيوت التي غادرت,, خلاص لم يبق لي إلا روح واحدة لم تعد تتحمل أي شيء خصوصاً مع كبر سني ووهن عظمي,, يا الله حسن الخاتمة, ضحكة طفل بدأت تطوف في أرجاء المسجد ويركض خلفها ضحكات أطفال آخرين, مبروك الولد يا ابو سارة,, العفو يا شيخنا اقصد أبو,, ماذا أسميت الولد؟ تضاحك وجه الإمام بالفرح والخجل معا، وهو يرد على أبي محمد، أسميناه ابراهيم إن شاء الله, أجل مبروك الولد يا أبو ابراهيم وعساه أن يكون من مواليد السعادة عليك وعلى أمه, قالها أبو محمد وهو يقف لينصرف, رد الإمام جزاك الله خيرا، وأبو محمد بقامته المديدة يمشي أول خطواته الواسعة البطيئة نحو باب المسجد، كانت أشعة الشمس تزحف على خطوط السجاد توقظ اللون الأزرق,,,، يا أم عبدلله لا أريد أن اصبغ جدران البيت باللون الأزرق، أنا لا أحب اللون الأزرق، ثم انني قلت لك أكثر من مرة ان هذا البيت الذي نسكنه هو بيت كروة وليس من المعقول ان أصلح في بيت لا أملكه,, يقول أبو محمد انه إذا سكن بيتا فإن تفاصيل حياته تلتحم بكل شيء في ذلك البيت وتصير هي الجدران وهي الأبواب وهي النوافذ,, يقول انه حين يرحل من بيت استأجره فإنه يترك ذرات روحه التي اختلطت بذرات ذلك البيت ولا يستطيع حملها معه مثل ما يحمل أثاثه,, وأنا لا أريد أن أكون مثل أبي محمد,, أترك روحي ومالي في بيت لا أملكه, وقفت عيناي على أشعة الشمس وهي تنزلق على كامل عرض الخطوط توقظ فيها الألوان من سباتها وتحملها بين يديها، تطرق عيني ثم تدخل إلى عصب رأسي، تطلق سراح اللون الأخضر ثم تعود أدراجها ببقية الألوان. فجأة، مزق أحشاء ضحكات الأطفال الفرحة صوت صرخة جهورية قوية: قتلتني قتلك الله ,, قتلتني قتلك الله، ثم اندفعت صيحات الأطفال فزعة مرعوبة: الرجل ذبح أبا محمد الرجل ذبح أبا محمد، تقافزنا من أماكنا واندفعنا خارج المسجد، كان أبو محمد ممددا على الأرض بطول مترين، وأحد المصلين يمسك برجل ويصرخ في وجهه: هذا الذي ذبح أبا محمد, رد أحد الواقفين: أنا رأيته بعيني,, ذبحه بخنجر معه,, فتشوا ثيابه, رد الرجل وهو يتملص من قبضة الذي يمسك به: يا أخي قل خيراً يقوله الله,, أنا لم أذبح أحداً وليس معي خنجر ولا غير الخنجر,, كل ما فعلته هو أنني قلت لصاحبكم هذا انني أريد بيتي ولم أعد أرغب في تأجيره لحاجتي إليه,, هذا كل مافي الأمر ياجماعة الخير. انحنيت على أبي محمد قلبته على جنبه الأيمن وقلبته على جنبه الأيسر، لم يكن هناك اثر لدم أو لجرح, قلت: ياجماعة الخير اذكروا الله ودعونا نرى ما أصاب أبا محمد, صرخ الإمام في وجه الرجل: ماذا فعلت يا رجل؟ أبو محمد مات وأنت تقول انك لم تقتله, لم أدر كم مضى من الوقت ولكني تنبهت على صوت سيارة الإسعاف، وعندما نزل أحد المسعفين وقلب جسد أبي محمد ونظرت إلى وجهه أيقنت أن أبا محمد قد مات, وانطلق الأطفال يتصايحون فزعين: مات أبو محمد,, مات أبو محمد,, قتله صاحب البيت. بدأت أشعة الشمس تتراكض فزعة مرعوبة في عيني وتتسابق مع دمع حار ملأهما، تستحث وتجمع جميع الألوان من الأشياء والوجوه، ثم حملت الشمس ألوانها تحت ردائها في عجل ورحلت, لم أعد أرى سوى أشباح أشياء راحت عنها ألوانها, وتسارع الماء الحار في عيني فجرف ما بقي في عيني من أشياء ومن رؤية، ووقفت حائراً وصوت أبي محمد يصرخ في أذني: قتلتني قتلك الله,, قتلتني قتلك الله.