ما الذي يخطر ببالك عندما تتأمّل بحراً ضخماً بديعاً؟ الكثير يتمنّون أن يخوضوا غماره ويستكشفوا العالم من منظورٍ جديد. لكن من يحب الإبحار وسبر أغوار تلك المساحات الزرقاء فلا أنصحه أن يقرأ قصة الصيني «بون لِم» لأنها ستثير القشعريرة! ولكنها في نفس الوقت تبعث على الأمل لأنها تُظهر مدى قوة غريزة البقاء لدى الإنسان. ما هي قصته؟ كان بون شاباً يبلغ من العمر 25 سنة وكان يعمل على متن سفينة تجارية بريطانية، وفي عام 1942م حينما كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها أبحرت سفينته تاركة جنوب أفريقيا، وبعد فترة من الإبحار أبصرتهم غواصة ألمانية وأطلقت عليهم صاروخاً دمّر السفينة، ولما بدأت تغرق لفّ بون نفسه بسترة النجاة وقفز في البحر وسبح بعيداً. أخذ يسبح ويسبح ولا يدري أين يذهب، وأثناء صراعه اليائس مع الأمواج وجد أمامه قارباً خشبياً صغيراً، فسبح تجاهه وامتطاه ونجا من الجزء الأول من المحنة، وبدأ الجزء الثاني، وهو كيف يصل لليابسة. في أول أيامه وهو يبحر تائهاً في المحيط مرّ به موقفان كاد ينجو فيهما، أولهما عندما مرت قربه سفينة والثاني عندما حلّقت فوقه طائرة أمريكية، وفي كلا الحالتين قفز بون صارخاً وملوّحاً لهم ولكن لم ينتبهوا له. حينها أيقن أنّ انتظار الفرَج من الآخرين لن يجدي نفعاً، واستقر على خطة نجاة جديدة: أن يعتمد على نفسه فقط إلى أن يصل لليابسة. نظر إلى قاربه فرأى أنه قد رُبط معه علب تحوي بعض البسكويت، وجرة من الماء، وبعض المشاعل للفت الانتباه، ومصباح كهربائي. حسب تقديره فلو أنه أكل قطعتين من البسكويت صباحاً ومساءً مع شربات قليلة من إناء الماء فسيستطيع أن يعيش لشهر على الأقل. أثناء هذا الشهر قرر أن يتمرّن يومياً لأنّ قلة الحركة تسبب المرض والضّعف، فكلّما هدأت الأمواج قفز إلى الماء وأخذ يسبح دوائر حول القارب مع انتباهه لأسماك القرش. بعد أن قارب الشهر على الانتهاء لاحظ أنّ ماءه وطعامه قاربا النّفاد، وكوّن خطة جديدة لمواصلة البقاء: أخذ سترة نجاته ولفّها بحيث صارت مثل القمع واستخدمها لتجميع مياه المطر. بعدها فكّك المصباح الكهربائي ليأخذ منه سلكاً معدنياً، واستخدم علب الطعام كمطارق وأخذ يشكّل السلك المعدني ليصبح مثل الخطاف، وأخذ الحبال الغليظة التي كانت تربط مؤنه ووصلها مع الخطاف فصار عنده صنارة. استخدم قطعة بسكويت كطُعم وألقى الصنارة وانتظر، وأثمر ذكاؤه عندما اصطاد أول سمكة، فأخذها وأكلا نيئة، واستخدم بقاياها كطُعم ليصطاد وجبته القادمة، وهكذا كان منواله طوال الشهر الثاني، ولما اقترب الشهر من نهايته رأى طيور النّورس تحوم حوله، ولأنه قد سئم من السمك فقد عزم على أن يحاول صيد إحداها. جمع بعض الأعشاب البحرية من أسفل قاربه وصنع منها عشاً وضع حوله بقايا أسماكه وانتظر، وبعد قليل وإذا بطير نورس قادم تجاهه، ولما اقترب انقض عليه بون وظفر بوجبة جديدة! لما زادت ثقته انتقل إلى مرحلة جديدة: أن يصيد أسماك القرش! صنع سكيناً من العلب الحديدية وصنع طعماً من بقايا الطير وزاد غلاظة حبل الصيد وألقى به في الماء، فاقترب قرش والتقم الطعم، والتقطه بون وألقاه على القارب، وكان القرش صغيراً يبلغ من الطول متراً وقليلاً، ولما صار على القارب قفز وهاجم بون! ضربه بون بجرة الماء حتى خمد، وأكله، وقطع زعنفيه وطبخهما تحت الشمس وهي أكلة صينية فاخرة! بعد فترة من هذه الحياة رأى بون سفينة ولكن لم يَعُد لديه تلك المشاعل فأخذ يقفز ويلوح بقميصه منادياً، ولحسن حظه انتبه له الطاقم والتقطوه، وأطعموه بعض البقول والماء وعادوا به لموطنهم... في البرازيل! نعم، اكتشف بون أنه قد قطع المحيط الأطلسي من جنوب أفريقيا إلى جنوب أمريكا، أي أكثر من 6 آلاف كيلومتر، قضاها وحيداً على قاربه لمدة 133 يوماً. قدرة البشر على التكيُّف والتعايش دائماً تدهشني، وهذه من أعجبها. عندما أخبروا بون أنه صاحب الرقم القياسي الجديد ردّ قائلاً «أتمنى أن لا يضطر أحد بعدي إلى كسره!»