كانت اليمامة البيضاء الغضّة تطير هناك على نحو قريب، فبين كل حين وحين تداعب الأغصان المورقة خضرة كالأمل في مطلع الربيع، يهزّها برفق حميم نسيم عليل يناجي الورود، يريد منها شيئاً من عطر دفين في جوف الزهور، استبقته منذ كان الشتاء يعصف ببرده الجليد وتفيض السماء، لتروي عطش الخريف بانهمار المطر حتى يولد الربيع، فيكون الوداع بحبات الرذاذ تعانق وريقات الشجر فتنتشي بها الحياة، فتتجمل باخضرار تشتاقه اليمامة لتسكن عليه. (صمت) ذات شتاء أثخنته كومات الثلوج اعتلى المنبر وصار يغني بجمود تغشاه رعشة، فلم يعره الانتباه أحد من الحاضرين الذين انشغلوا بالحديث الرتيب همساً، لا يقوى على مواجهة ذلك الكائن الرهيب المستبد بضوء المنبر الخافت. فقد الميكرفون العتيق البالي القدرة على حمل كلماته، فحاول أن يرفع نبرة صوته أكثر وأكثر، غير أنّ حنجرته انطفأت كغيره من الكثيرين الذين عبثوا يوماً، غير أبهين أنّ حناجرهم لا تقوى ذلك، إذا ما أطالوا نثر الكلمات والجمل في فوضى هدير الحياة - دون أن يلتفت أحد - فأضحى الكثير منهم لا يسمعون أو يأبهون، وصار كل ذلك الصراخ الذي يتقاذفه العابرون المتذمّرون من بعضهم البعض، وحين يأتي الليل للحلول تتلاشى الكلمات والناس من ذاك الطريق، وكعادته يجر خطواته تباعاً حتى يخيّم على أرجاء وتفاصيل المكان بوهن غير مترقبٍ لجديد، فهو صديق قديم منذ عرفته يسمونه الصمت. أحمد العتيبي