ولا أظنني في حاجة أن أكثر الحديث عن هذه المؤلفات وجلكم اليوم تعرفونها وعلى رأسها كتاب «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية» والذي أصله محاضرات ألقيت على طلاب قسم الدراسات الأدبية واللغوية بمعهد الدراسات العربية العالية، التابع لجامعة الدول العربية.. ..وهو جزءان أحدهما وهو الخاص بالشعر طبع من القاهرة عام 1959م، والثاني الخاص بالنثر ولم يطبع حتى تم طبعه ضمن المجموعة، ولكن الكتاب بجزأيه كان أول دراسة عن تأريخ الأدب السعودي ونقدهن وظل المرجع للدراسات النقدية لكل البحوث التي صدرت بعده عن الأدب السعودي، وحتى أيامنا هذه ولن تجد إلا في النادر دراسة لم تفد منه، ولم تضمه قائمة مراجعها، وكان الجزآن يصوران وتتداولهما الأيدي منذ صدور الجزء الأول وحتى زمن طبع المجموعة. وأما الكتاب الثالث في المجموعة فهو قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي والذي شارك الأستاذ في تأليفه أحد أصدقائه هو الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي والذي لم يكتب منه إلا صفحات قليلة، والكتاب دراسة عن الحجاز تنم عن علم راسخ ومعارف شتى ببيئة الحجاز الطبيعية وأقسامه وجولوجيته وأعصرها وكل ما فيه من ناحية الجغرافيا، وآثاره القديمة وثروته الزراعية والحيوانية وثرواته المعدنية، ثم مدته وقراه، وسلاسه الجبلية وقبائلهن ثم أدبه والعوامل المؤثرة فيه.. أهمية موقعه وتاريخه السياسي، والحياة الاجتماعية فيه وأسواقه التجارية، والحياة الدينية فيه، ثم شخصياته وفنون النثر فيه، والحكم والأمثال والشعر بأنواعه والموسيقى والغناء وخصائص الشعر. وهذا الكتاب لا أظن أن أحداً كتب عن الحجاز مثله من قبل ولعل إعادة طبعه في المجموعة تلفت النظر إليه وتتم دراسات حوله، وقد اشتملت المجموعة على مجلد ضخم ضم محاضرة الأستاذ التي ألقاها في مؤتمر الأدباء العرب ببغداد عام 1965 عن الغزو الفكري، والتي عدد فيها ألوان الغزو التي استحدثها الاستعمار منها الغزو الثقافي وتلمس صوره عبر الاستعمار الانجليزي والفرنسي والإيطالي، ثم نشره الحركات المشبوهة كالبهائية وحركة القوميين السوريين، ثم غزو الكيان اللغوي بالدعوة إلى العامية وبالدعوة لكلمات ؟؟؟؟ ؟؟؟؟ ثم تحدث عن الغزو بالسلب والذي عني به تشجيع هجرة العقول العربية إلى الغرب، ثم تحدث عن مقاومة هذا الغزو مفرقاً بين الغزو والتأثر به، ثم في ملمح عن المقاومة تحدث تحت عنوان من حزيران إلى رمضان، داعيا إلى انتفاضة تعيد للعروبة مكانتها. كما اشتملت على قصصه (أمي - العم سحتوت - سائق البريد) كما اشتملت على مسرحيته (الشياطين الخرس). واشتمل هذا المجلد أيضاً على المرصاد وتعليق الأستاذ الكبير عليه. وأستاذنا الجليل حر الفكر جريء في طرح أفكاره التي تناقش قضايا الأمة والوطن ومن قرأ كتابه الأول (التيارات الأدبية) سيجد هذا النقد الجريء والنزيه لأوضاع كانت موجودة حين تأليفه، وفي المسرحية (الشياطين الخرس) شيء من هذا يبرز واضحاً فيما تخيله يحدث في مجلس شورى ذاك الزمان فهي يقول في نهايتها على لسان أجرأ شخوصها (نضال) وقد يأس من الإصلاح وقبل استقالته رئيس المجلس وثنى على ذلك الأعضاء: (اكتبوا ما شئتم فأنا خارج، خارج لألقى الناس الذين يعيشون بوجه واحد، الذين يعيشون لرأيهم وبرأيهم، إنني خارج هكذا مرفوع الرأس كما دخلت، لأنن لم أحن هامتي قط في حياتي، كما يفعل الأنذال الجبناء). وأظن أن من يقول هذا هو أستاذنا الجليل لا شخص مسرحيته فهو لم يحن الهامة لأحد قطن عاش مع الناس وللناس، يهمه أمرهم، ويتمنى لو يدفع عنهم الأذى. لذا تحمل الكثير من أجل ذلك، وما قصة هذا الشيك الذي يتردد الحديث عنه عنا ببعيد فلما أرسل إليه خادم الحرمين الشريفين ما ظن أنه يعينه به على حياته لم يستطع قبوله، وآثر أخيراً ألا يرده، ولا يصرفه أبداً، فظل حبيس كتاب مع كتبه التي يقرأ فيها حتى وافاه الأجل، فما كان يرى أن يقبل مالاً لا يظنه يستحقه، وإن كان عن أذى ناله، فكرامته لا تقدر بثمن، بل هي فوق الأثمان كلها، وهكذا هو عبدالله عبدالجبار عاش لا يقبل من أحد منة، وقد كان بين تلامذته رجال أعمال ووزراء وسفراء، والخيرون مهم كانوا يتمنون خدمته وأن يبذلوا من أموالهم ما يعينه على الحياة، ولكنه لم يقبل قط مساعدة من أحد، وقد توسل غلى بذل المال له الكثيرون، فكان الاعتذار بالكلمة الرقيقة الطيبة جوابهم. وكان على قلة دخله يصرف على اجتماعنا به في مساء كل يوم ثلاثاء ثم مساء كل يوم سبت ويرفض أن يشاركه أحد في ذلك، بل إنه إذا كلف أحدنا بأن يشتري له كتاباً أو يحضر له شيئاً من السوق لم يرض أن يأخذه إلا إذا قبض أحدنا ثمنه منه، عزة النفس فيه لا حدود لها، لذا قال تلميذه معالي الشيخ أحمد زكي يماني: (الأستاذ عبدالله عبدالجبار نادر في عفة النفس وكبريائها، في تواضع نادر) وكيف تجتمع كبرياء النفس مع التواضع، تلك هي صناعة لا يحسنها إلا مثل أستاذنا عبدالله عبدالجبار حينما كان في الجامعة مستشاراً ووجد نفسه لا يعمل رفض أن يستلم مرتبه وترك العمل بالجامعة. وحينما كنا نجمع مقالات الأستاذ، ولأن العهد بما كتب الاستاذ بعيد، وقد تناثر ما كتب عبر صحف عربية ومحلية، حاولنا الوصول إلى أكبر قدر منها ولم نحصى، ومن أدعى أن عنده شيئاً من تلكا لمقالات لم ينشر فليدلنا عليه فلا نزال نوالي طبعات لمجموعته متعددة، ولكن القول كثير والعمل عند كثير من الناس قليل. ومن أشهر مقالاته تلك المقالة التي عنونها (أديب الساعة الخامسة والعشرون) والتي بدأها بقوله: (أيها الأديب الجديد في بلادي وفي دنيا العروبة جمعاء، لقد دقت الساعة الخامسة والعشرون، مؤذنة بميلاد حياة جديدة وأدب جديد فهل تسمعها). وقبل الختام قال: (يا صديقي لقد جرى عرف الناس جميعاً على أن اليوم أربع وعشرون ساعة) ولكن الحياة العصرية الجديدة في عصر الأقمار والصواريخ والسرعة الجنونية واللهاث، عصر الأعصاب الممزقة، خلقت أنجازاً جديدة لإنسان القرن العشرين، حتى ليشعر الإنسان العصري وهو في نطاق اليوم العادي أنه خارج هذا النطاق يحس أنه في ساعة جديدة بعد الساعة الرابعة والعشرين هي الساعة الخامسة والعشرين). وما بين البداية والنهاية حشد نصائحه للأديب الجديد كيف يتعامل مع هذا العصر الجديد في سرعته وكيف يلاءم بين الماضي المؤثر الذي له في نفسه خير وبين متطلبات عصره. وفي مقالاته بحوث عن شعراء وعمالقة، وبحوث نفسية عن مركب النقص واثره في المبدعين، ومقالات في النقد، ومقالات تربوية، ومقالات مترجمة والأستاذ - يرحمه الله - كان ملماً باللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية وقد وجدنا مقالات ترجمها عن الألمانية، ولما سألته عن المامه بهذه اللغات قال تعلمت منها شيئاً ولم أبرز فيها، ولكني أستطيع أن أقرأ وأترجم. والذين كتبوا عنه منهم من عرفه وقرأ له، والكثيرون من زمن ظهور الملفات لم يعرفوا ولم يقرأوا ولكنهم تطوعوا بالكتابة عنه ليلتحقوا بغيرهم. والأستاذ له مقدمات كتبها لمن طلب منه أن يقدم كتاباً له وجلهم من زملائه ومجايليه، وفكتب مقدمة لكتاب زميله وصديقه الأستاذ محمد عبداللطيف السحرتي (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديثن فجاءت في (55) صفحة وكأنه كتاب في ذات الموضوع يوازي كتاب المؤلف، وكتب مقدمة لكتاب معدود الصفحات ثري المعلومات لأديب سعودي مميز هو الأستاذ عبدالله الخطيب وعنوانه (كيف كنا) وكتب مقدمة لديوان صديقه الشاعر إبراهيم هاشم فلالي المعنون (طيور ابابيل) وجاءت المقدمة في تسع عشرة صفحة دراسة متكاملة عن الديوان والشاعر، وكتب مقدمة لصديقه الآخر الشاعر الفيلسوف (حمزة شحاتة) في أحد عشر صفحة لكتابه (حمار حمزة شحاته) وهو مقالة طويلة، وكتب مقدمة لكتاب (شعر اليوم) للاستاذ مصطفى عبداللطيف سحرتي في خمس عشرة صفحة، وكتب لديوان (الموانئ التي أبحرت) للشاعر أنس عثمان مقدمة في ثلاث وثلاثين صفحة في قراءة متأنية للديوان لا تصدر إلا عن مثل استاذنا الجليل عبدالله عبدالجبار وهكذا هي بقية المقدمات وهذه المقدمات دلتنا على إبداع كان غائباً عنها حتى قرأناها. وهكذا هو الأستاذ عبدالله عبدالجبار لم يتوارعنا أبداً، حتى وإن اعتزل الناس فترة من الزمن ظل ذكره على الألسنة والأقلام، رغم أنه كف منذ زمن طويل عن الكتابة، ولم أر أحداً من تلاميذه الذين درسهم في مدرسة تحضير البعثات أو في المعهد العلمي إلا وهو يحفظ له الود وفاء ويزوره وكنت أرى في مجلسه الوزير والسفير ورجل الأعمال والموظف الكبير، وهو من غرفته متواضعاً لا يقربه بالكبر والفخر شيء أبداً. يقو علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - عن أستاذنا عبدالله عبدالجبار (الأستاذ عبدالله ذو المواهب متعددة، فهو من رواد كتاب القصة في ال بلاد ينحو معالجة إصلاح القضايا الاجتماعية، وهو كاتب مسرحي، ولعله من أول من طرق هذا الجانب الأدبي بين كتابنا، إن لم يكن أولهم، وهو يعد على رأس النقاد بين أدباء البلاد، الذين لا تعوزهم النزاهة والجرأة والصراحة، وله مقالات في هذه الناحية نشرت في الصحف ومشاركة في بعض القضايا الأدبية، هو حقاً ناقد جريء، لكنه مع ذلك يتصف بالحكمة وسمو الغاية وعدم التحيز). وهي كلمة حكيمة من رائد حكيم، لا يقول إلا ما يرضي ضميره، وما يصف به شيخنا الرائد الجاسر نقد أستاذنا بأنه جريء ولكن لا تفارقه الحكمة وسمو الغاية وعدم التحيز، هو ما يلحظه له كل قارئ، ويعرفه عنه كل من اقترب منه، حتى الذين أساءوا إليه لم يبادلهم الإساءة ومجرد أن يعتذروا إليه يعفو عنهم، أما إذا باشر قراءة نص لهم فهو المنصف العادل. ولعل هذا هو ما جعل نخبة تلتف حوله على مدى العمر تواصل الاتصال به وزيارته كلما سنحت لها الفرصة. ونحن الذين مثلنا الدائرة القريبة منه جداً أحببناه ولم ننقطع عن زيارته حتى وافاه الأجل، ولقد شعرت عندما أنبأت بوفاته إنها الوفاة الثانية لأبي، فقد كان رحمه الله عطوفاً على محبيه، يمنحهم النصح مخلصاً ويهون عليهم المصائب إذا حلت بهم، وله قدرة عجيبة على مواجهة الهموم مهما ثقلت، وعنده لكل منها علاج يزيلها. ولما انتقل إلى مكة ليقيم عند بنت أخته الأستاذة الجليلة الدكتورة فاطمة سالم عبدالجبار أستاذة الأدب بجامعة أم القرى، وزوجها المهندس جميل مندورة وأبنائهما، وقد خدموا أستاذنا في سنوات عمره الأخيرة خاصة عند اقترابه من التسعين من سن عمره المديد - رحمه الله - وطوقوا أعناقنا نحن الذين أحبوه، بعد أن فتحوا دارهم لنا لزيارته والالتقاء به، واحضاره كلما تحسنت صحته إلى منزله في جدة، هذا المنزل المكتبة والذي آلت كتبها إلى جامعة أم القرى مؤخراً بعد وفاته، والتي نرجو أن تكون متاحة للقراء ففيها من المصادر العلمية والأدبية النادرة والتي لا تجد لها مثيلاً في مكتباتنا العامة أو مكتبات جامعاتنا، وأما أوراقه الخاصة والتي آلت لمؤسسة الفرقان للتراث، والتي أظن أننا سنجد فيها الكثير مما يستحق النشر، إلا ما حرص هو على عدم نشره، خاصة تلك الأوراق التي تخص صديقه الحميم الشاعر حمزة شحاتة، والذي كان في كثير من الأحيان يحرف بعض ما كتب شعراً ونثراً، وكنا لما نصر على استاذنا عبدالله عبدالجبار أن يطلعنا على ما تركه عنده خاصة من قصائده، يرد علينا لن تطلعوا إلا على ما رضي هو أن ينشر، فله وصايا ألا تنشر بعض قصائده أو نثره، ولعل أستاذنا الجليل مثله، فله شعر لم نستطع أن نحصل على شيء منه سوى ما نشرناه في نهاية مجلد مقالاته، مع أننا على يقين أنه قد اختزن الكثير منها. رحم الله أستاذنا وغفر له، ورحم من اجتمعنا في دارته اليوم الشيخ حمد الجاسر. ولعلي قد قلت ما فيه تجلية خاصة لما غاب عن الناس من خلائق الأستاذ عبدالله عبدالجبار ولم أضع أوقاتكم وشكراً لكم. * محاضرة ألقيت في (دارة العرب)