إن تقليب مجموعة كتب أستاذنا الرائد عبدالله عبدالجبار وهي كثر تبلغ آلاف الصفحات، وأن مطالعتها تتطلب وقتًا طويلاً وصبرًا لاستخراج بعض آرائه في الدرس والنقد، وأن سرعة الحراك لا يتيح كتابة ذات معنى وإدراك، وأن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين رحمه الله كان يردد أن السرعة في الوصف في الخطاب الأدبي تفسده! والإنسان الذي يدعى للإسهام والمشاركة أمامه خياران، إما الاعتذار وقد يتهم بالتقصير، أو أن يقدم رأيًا فجًا فيحاسب عليه ولا يعوّل عليه! وهذه حالي وربما حال غيري مع الأخ فهد الشريف المشرف على ملحق «الأربعاء» الأسبوعي! ويعلم أهل الذكر أن الحديث عن أستاذنا الرائد ذي القامة الفارعة، هذا العملاق لا ينبغي أن يكتب عنه موضوع إنشائي، وهو أمر لا يليق بي ولا بالمحبين وهم كثر! والعاملون في الصحافة لا يقبلون اعتذارات ولا مواعيد يضطر إليها الكاتب الذي يدعى إلى الكتابة مما يُراد منه ! وهذه حالي مع المشرف على «الأربعاء»! أنا مضطر أن أفي بوعدي شئت أم أبيت! ودراسة آثار أستاذنا ذي القامة الشامخة المتنوعة يعنى بها الدارسون والباحثون، وهي خليقة بالمطالعة الجادة لكاتب ذي بصمات راسخة في الدرس والنقد! وجنحت إلى « المجلد الخامس» من مجموعة آثاره التي تولى طباعتها رجل محب مقدر لعبدالله بن عبدالجبار معالي الأستاذ أحمد زكي يماني.. انتقيت ما أتيح لي من المجلدات الستة ونصفها ضخام. وفي أول كتاب المقدمات حديث طويل ، بدأ أستاذنا الفقيد عن قمة بارزة عرفها كاتبنا حين كان مقيمًا بمصر، وعبر قراءتي للمقدمة الأولى في هذا الجزء الذي خصص للمقدمات، وحين شرعت في قراءة الحلقة الأولى أدركت أن كاتبنا اختار من يكتب عنهم، بل إنه دعي لكتابة المقدمة لباحث عرفت من السبح الطويل أن يكتب مقدمة تليق بمن رغب إلى أديبنا الكبير أن يقدم له كتابه إلى القارئ العربي في مصر وما إليها من البلاد العربية، وحين شرعت في قراءة هذه المقدمة التي بلغت صفحاتها الطوال إحدى وخمسين، وكان تاريخ كتابتها في 20 رمضان 1404ه لكني لن أتوقف عند هذا الكم، لأنه حديث بل بحث لدارس عرف بعنايته بالكتب التي ينبغي العناية بها وتقدم إلى القارئ الجاد ليدرك قمة ما يقرأ بهذا العرض المتميز عني به قلم متميز! إذًا فإن البدء في افتتاح المقدمات مع كاتب مجيد تولى أستاذنا عبدالله عبدالجبار الحديث عنه وعن درسه وثقافته ولغاته وما اهتم به في تعليمه ومعارفه ، إنه الدكتور مصطفى السحرتي، وقبل أن أصل إلى ذلك الاسم البارز اللامع ، قبل ذلك قرأت ديباجة كاتب المقدمة التي تصف تلك الشخصية ذات الكفاءة والقدرات التي أحاط بها قلم أستاذنا العزيز، وودت أن أقرأ كتاب “الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث” غير أن قراءة تلك المقدمة، أغنتني لأن فيها كل شيء وقد ذكرت صفحاتها الطوال وفيها الإحاطة بكل حياة الدكتور السحرتي من البداية حيث مولده في بلدة “ميت غمر” التي يحيط بها البحر من جهاتها الأربع، ويتواصل عن البلدة فيما تحدث عنه كاتبنا بقوله: “وهي بلدة عامرة بالمروج والحقول والحدائق الغناء ويحيط بها البحر من جهاتها الأربع؛ خضرة وماء وجمال طبيعي أخاذ تركت بصماتها الوردية على قلب الطفل، وكان لها أثرها الواضح على حياته الأدبية فيما بعد” . ومضى كاتب المقدمات يبسط حديثه عن السحرتي ووالده الذي يمارس التجارة وحياة الطفل الدراسية في مراحلها الأول، وأن مولده كان بتاريخ 23/12/1902م وقال كاتبنا إن السحرتي : في شبابه استهوته الكتب الرصينة ومقالات مجلة “البيان” للبرقوقي وبخاصة ما يكتبه محمد السباعي، ثم تحول من الأدب الرصين إلى المترجمات ونظرات المنفلوطي وعبراته، ومن الكتب التي أثرت في حياته الأدبية الباكرة خطب الإمام علي رضي الله عنه التي أثرت في أسلوبه الأدبي، وأمهات الكتب والعبرات.. وكتب الحيوان للجاحظ إلخ. والسحرتي في دراسته تردد في الالتحاق بمدرسة المعلمين أو الحقوق وأختار الحقوق حيث تخرج في الكلية عام 1926. ثم أخذ يزاوج بين الأدب والقانون .. وقال السحرتي مما نقله أستاذنا: وظل شوقي إلى الأدب متوهجًا بنفسي في غضون دراستي القانونية، وكان وقتي موزعًا بين الأدب والقانون ، فكنت أبدأ بمطالعتي الأدبية لأفتح شهيتي إلى الدراسة القانونية واستساغة مادتها الجافة، وأود أن أسجل أن الكتاب الوحيد الذي أثر أسلوبه فيَّ ، هو كتاب “ذكري أبي العلاء ، للدكتور طه” ، فلأول مرة في تاريخنا الأدبي تقع على بحث منظم وأسلوب واقعي جذاب، وقد كان هذا الكتاب من عوامل تحولي إلى الأسلوب الفكري ، وقد كنت أوثره بالقراءة على دروسي القانونية ، بل كنت أفتح به شهيتي لقراءة هذه الدروس الجافة على ذهني”. وأعود إلى حديث أستاذنا عبدالله عبدالجبار حيث ساق في المقدمة أن صاحبه كان مولعًا بالقراءة نهمًا في مطالعاته يقرأ كل ما تصل إليه يده من الكنوز؛ يقرأ في كل شيء ما استطاع إلى ذلك سبيلا عربية وعالمية “فمعرفة التفكير في رأيه - أهم خصيصة - للناقد الأدبي”. وحين نال شهادة كلية الحقوق هرع إلى باريس سعيًا وراء الحصول على الدكتوراه من هناك وأن يتعلم ويتوسع في اللغة الفرنسية.. ولعل حاله تشبه حال الأديب الكبير توفيق الحكيم الذي غدا إلى باريس ليدرس المزيد من القانون رغبة والده، ولكنه تحول إلى الأدب وحده ! والسحرتي أغراه الأدب في بلاد الفرنسيين فانصرف إليه وترك ما سعى من أجله، ذلك أن الأدب مغرٍ لأنه جميل ورائع أما القانون فهو دأب الذين يريدون الصدارة في المحاكم وقضاياها، والأدب لغة الصالونات والمناخ الحالم والسبح في الرومانسية وفضائها الرحب.. وتحول السحرتي إلى الأدب المتعدد المنابع، وعايش وقابل أساطين الفكر هناك، وهجر ما لا يريد لأن معطياته مادة جافة لها أهلوها، أما الأدب فمسرحه أمتع عند الذين يتذوقونه وتطربهم إيقاعاته شعرًا ونثرًا ! ويتحدث السحرتي عن رحلته البحرية إلى فرنسا، فنقرأ وصفه: قد لا أكون مغاليًا إذا قلت: “إن رحلتي على الباخرة من الإسكندرية إلى مرسيليا هي أجمل رحلة في حياتي، وآثرها على قلبي، لما امتلأت به عيناي من مشاهد خلابة، ولست أنسى ما حييت لقائي على الباخرة بتاجر هندي مثقف كان يبيع الماس في باريس” إلخ.. وينقل أستاذنا عبدالجبار بعض أحاديث السحرتي الطلية فنقرأ قوله : “في هذه السنين من 1926- 1936م وما بعدها إلى قيام الحرب العالمية الثانية: في هذه السنين كانت النزعة الرومانتيكية مسيطرة علينا وهي نزعة تقدمية حولتنا من الأدب الكلاسيكي إلى هذا الأدب الجديد، وفيها تزودت بما وقع لي من كتب وروايات وأشعار لكبار كتاب فرنسا الرومانتيكيين وشعرائها وعلى رأسهم لامرتين وروسو وفي رحلتي في نوفمبر 1926م اهتممت بكتابات «روسو» وبغيره من المعاصرين وبخاصة ما كتبه “رومان رولان” عن “بتهوفن وغاندي” .. وفي هذه الفترة أحببت أسلوب «أوسكار وايلد» الرشيق وكتابه “من الأعماق”، كان من الكتب التي لا تزال نكهتها في فمي، لكن أهم بيئة أدبية تزودت بالمعرفة منها كانت بيئة “أبوللو” وبخاصة كتابات أبو شادي وكتابات “مسرح الأدب”. وقال أستاذنا عبدالجبار تعليقًا على ما سقت: حتى إذا أخذ المذهب الواقعي في النمو وبدأ يقص من أجنحة الرومانتيكيه، تحول السحرتي إلى مناهل هذا المذهب وقرأ ما وقع له من أدب “جوجول وتشكوف وتولستوي ودستوفسكي” وغيرهم من الأعلام من أدباء العالم أمثال “إدريس أحمد بيرا” التركي، و“لوريكا” الشاعر الإسباني “و. ه أودين” الإنجليزي، ثم “فاليري بريسوف” و“ماياكوفسكي”. وكنت أريد المضي في هذا الحديث الشائق وأتحول منه إلى حديث “حمار حمزة شحاتة”، وقد كتب أستاذنا كاتب هذه المقدمات، كتب مقدمة ثرية من روح شحاتة مع “حماره” وهو حديث يغري بالقراءة المتجددة، ووجدت وأنا أقرأ المقدمة وكأنها انتزعت من تعابير أبي عرب، وليس ذلك تقليدًا ولكنه مجاراة في السخرية والصحبة مع هذا الحيوان الصديق الصبور الوفي الوادع! كان بودي أن أغدو مع كاتب المقدمة ليرى القارئ التناسق بين الكاتبين؛ وكأن أستاذنا عبدالله عبدالجبار رحمه الله مشاركًا عبر هذا النسق ربما أغراه حين أتيح له أن يكتب مقدمة الحمار، استهواه النمط في معايشته أو وصف تلك الحالات مع صحبة ثرية بالخوض في مناخ يدعو إلى الرواح عبر رحلات متتابعة وصورها كأنموذج للأدب الساخر ! الزمن يدهمني والساعة تزحف عقاربها إلى منتصف الليل مما يضطرني أن أتوقف تاركًا الصحبة وأحادثها لظروف مواتية أكثر سعة في الوقت يتجدد فيه القول والصحبة مع تلك الأحاديث! فحتى جهد المقل لم يوف حقه نحو ما كان ينبغي أن أكتب وأن أتحدث لأن أعتذر مرة أخرى لأني لم أكتب ما يكفي أو بعض ذلك من مقدمات عن الدكتور السحرتي ولا عن حمزة شحاتة وحماره ، وقلت في البدء إن تلك المقدمات الثرية لأستاذنا عبدالجبار - رطب الله- ثراه أقل مما ينبغي أن أسجل وما ينبغي أن أكتب عن ناقدنا الكبير وعن نقده وجهده الثري، وأرجو أن نقرأ أطروحات للدارسين توفى الرجل حقه ، والله المستعان.