الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه وبعد ما كان لمثلي ألا يستجيب لدعوة مركز الشيخ حمد الجاسر لإلقاء هذه الورقة على مسامع هذه النخبة المتميزة من صفوة مثقفي الوطن، وأنا من ظل منذ الشباب متابعا لكل ما كتب علامة الجزيرة أو ألّف.. .. معجباً به وبفكره قبل أن ألقاه وبعده، فقد رأيته أول مرة وتعرفت عليه في مكتبة السيد المؤيد بالطائف، والتي كانت ملتقى نجوم من مثقفينا الأوائل، فلم أترك بعدها فرصة تسنح لي أن أزوره وأتحدث إليه إلا فعلت حتى كان اللقاء في بيروت والذي استمر زمناً. المراحل: واليوم وأنا في خميسيته أتحدث عن رائد مثله فقدناه قبل أيام هو أستاذي عبدالله أحمد عبدالجبار الشخصية التي ما أن تعرفها حتى يتمادى به الأعجاب بها حتى تتخذها لك قدوة، في جوانب كثيرة من الحياة منها جانب الإصرار على قيم علمية مثلى في الطلب أولاً، ثم في التعليم ثانياً. فقد ظهر عليه النبوغ باكراً منذ كان يتردد على الكتاب، ثم تميز عند الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، ثم عند ارتياده أولاً مدارس الفلاح ثانياً, ثم الفخرية بعد وحتى التحاقه بدار العلوم بالقاهرة. ثم يوم أن عين مدرساً بمدرسة تحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي، حيث بر معلماً للغلة العربية، ثم مدرسا للتربية وطرق التدريس، وظل الإعجاب به بين تلاميذه صداه يتردد حتى هذه اللحظة، وأسألوا من يعيش بيننا منهم يخبروكم عن مزاياه. وجانب آخر من الاصرار على المواقف إذا كان قد بناها على مبادئ وقيم عليا، فله من قوة الإرادة وقوة الشكيمة، ألا يتزحزح عن مواقف يرى أن أحق فيه، ولعل هذا هو ما جعله يتعرض لكثير من المشكلات في مفاصل عدة في حياته. مراحل حياته: وقد مر أستاذنا الجليل - يرحمه الله - في مراحل ثلاث: الأولى: كان فيها وهجه يجذب الناس إليه لنبوغه، وعبقرية ظهرت عليه وهو يعلم ويؤلف يصادق ولا يعادي، يوم أن أتم التعليم ثم مارس التربية والتعليم وبرز في هذا المجال، وحتى وصل مديرا للبعثات بمصر يوم أن لم تكن لنا بعثات إلا إليها، وهناك كان نجما، أسس مع بعض أصدقائه المصريين رابطة الأدب الحديث، وكان له صالونه الأدبي الذي يجتمع فيه مثقفون عرب ومصريون وسعوديون إذا زاروا القاهرة، ورعى الفرق الأولى من المبتعثين السعوديين، الذين حفظوا له الكثير من الود، وعرفوا له الفضل، ولم يشفع له ذلك كلهن حينما غضب عليه فألقى منصبه، وسحبت منه جنسيته، ثم جاءت الصدمة الأخرى بسجنه في مصر مع بعض المثقفين المصريين والعرب، ممن كانوا يرتادون صالونه، فالمعروف عن أستاذنا أنه عروبي الوجه والاتجاه، ولكنه في ذات الوقت يقدس الحرية، فلم يكن يحجر على أحد أن يبدي رأياً في صالونه، وهذا ما جعل زوار الفجر يجمعون رواد صالونه ويودعونهم سجون الاعتقال فلما أفرج عنه لم يطق البقاء في مصر، ورحل مهاجراً إلى بريطانيا حيث عاش هناك عشر سنوات عجاف، وحينا علم في معهد للغة العربية لغير الناطقين به، ولعله ألقى دروسا في معهد تابع لسفارتنا، وهذه هي المرحلة الثانية القاسية في حياته وتأتي المرحلة الثالثة بزيارة ولي العهد الأمير فهد بن عبدالعزيز لبريطانيا حيث تحدث إليه الخيرون المخلصون من أبناء الوطن، والذين يعملون في سفارتنا في لندن عن الأستاذ عبدالله بما انتهى بالأمر بإعادة جنسيته إليه وفتح أبواب البلاد أمامه للعودة إليها شاء فنقلت مكتبته التي كانت في مهجره إلى جدة، بعد أن تبرع بمكتبته الأولى لجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، التي لم يلبث أن عمل مستشاراً لها، وفي الحالين بقي عبدالله عبدالجبار الرجل الحر، ذو المواقف المبدئية الثابتة، القوي الشكيمة الذي لا يتراجع عن رأى أبداه وبناه على علم ومعرفة، وموقف اتخذه لأنه يرى الحق فيه، ولما انتقل إلى شركة تهامة مستشاراً لها، وجد مثيلاً له ممن يقدس حرية الرأي والفكر، ذاك هو الأستاذ محمد سعيد طيب، وهو الرجل الذي كان رفيق حياة الأستاذ عبدالله الثانية في بلاده.. منذ أن عاد إلى المملكة وحتى توفاه الله. ولما عاد الأستاذ عبدالله إلى وطنه خاصة بعد تقاعده واعتزل الناس متأثراً بما ناله مما كان يكره، ظل يبتعد عن الناس إلا من فئة قليلة من أبناء زملاء له من أمثال الدكتور أسامة إبراهيم فلالي، ومحمد أحمد العربي، ومحمد شوقي عبدالوهاب أشي، وحمزة إبراهيم فودة، وأمثالهم، ومدير الجامعة آنذاك الأستاذ محمد سعيد طيب، ومعه رجل نبيل أصيل هو الأخ الكريم الأستاذ محمد حافظ الذي ظل يقوم بشأن الأستاذ كله، ثم انضم إلى هذه الفئة بعض من أشاروا بهم عليه من أمثالي، وكان مجلسه يوم الثلاثاء مساء ثم يوم السبت إنما يحضره هؤلاء، وبعض تلاميذه ممن كانوا يزورونه بين الحين والآخر. ففي هذه الفترة كان عزوفاً عن الحياة الاجتاعية ولكنه القارئ الذي يصرف وقته كله في مكتبته، التي تحتل في بيته كل الفرق والصالات والممرات. وقد عرفته عن قرب في هذه الفترة قبل ما يزيد عن عقدين، واقتربت معه أكثر فأكثر فأنس بي وأنست بهن فكنت من مجموعة تلاميذه المقربين له، والذين ينعتهم بأعز اأصدقاء، ورأيت فيه هذا الطود الشامخ الذي لا تهزه الأحداث، المعتد بنفسه في غير كبر، العلامة الذي بلغ الغاية في تخصصه لغة وأدباً ونقداً، والمفكر الحر الواعي كل همه أن يسعى بكل جهد لرقية، أهله كلهم هم أهله الذي لا يفرق بينهم عصبية لمنطقة أو إقليم كما لم يعرف قط التفرقة لمذهب أو جنس. عرفت فيه الرجولة التي لا تهتز مهما قست الحوادث أو أقبلت النكبات وعرفت عنه عفة اللسان، وحسن المسلك، والنزاهة في الحكم. مجموعته: وظل أستاذنا الجليل يرفض أن يعاد طبع كتبه، وأن يطبع منها ما لم يطبع، وما كنت أظن أنه مجيز لنا الجهد لإخراج مجموعته الكاملة لولا أنه طعن في السن، فضعفت ممانعته بعض الشيء، ولحبه لتلميذه معالي الشيخ أحمد زكي يماني وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق، والذي كانت أمنيته أن ينفق على هذا المشروع الوطني، ولما حصلت على أذن خطي من الأستاذ أن أتولى مع أخي الأستاذ محمد سعيد طيب طبع مجموعة مؤلفاته الكاملة، رأينا جميعاً نحن المحيطين به أننا أنجزنا أهم خطوة لإخراجها للناس، ولما حملت النبأ لمعالي الشيخ أحمد زكي يماني رأيته وقد سر سروراً عظيماً، ولما بدأنا العمل في تتبع مجموعته المؤلفات وما أبدع من قصة ومسرحية وما ألقى من محاضرة أو كتب مقالة، أو مقدمة لمؤلف آخر سعى إليه ليقدمه للناس، حاولنا أن يكتب إلينا إخواننا بما يجدونه متعلقاً بهذا الرائد الكبير كتبه أو كتب عنه، فلم يستجب منهم إلا القليل، الذي وجدنا ما عنده في الغالب قد اجتمع عندنا، ولكنا بعد ظهور المجموعة وجدنا كل من كتب مقالة عن الأستاذ أراد منا أن نبحث عنها ونضمها إلى مجلد ما كتب عن الأستاذ حتى وإن كان لم يعرف الأستاذ قط ولم يقرأ له. ولكن كان همنا أن نخرج المجموعة هذه للناس، وقبل وفاة أستاذنا الجليل لنفي له بعض ما طوق به أعناقنا علماً ونصحاً، فهو المحب لتلاميذه المسدى لهم النصح، يمنحهم من علمه وفكره ما يظنهم في حاجة إليه. وما أجملها من لحظات تلك التي قضيناها معهد بعد أن تم طبع المجموعة وذهبنا إليه في منزله نهدي إليه هذا الجهد ونرى البشر يعلو محياه. * محاضرة ألقيت في (دارة العرب)