سلسلة من الصدمات هي عمر الأديب الراحل عبدالله عبدالجبار، من معاناته مصاعب الحياة وعيشه على الكفاف إلى غير ذلك من العوائق، دون أن تلين عريكته أو يحيد عن مساره. هذا غيض من فيض مما حكاه تلميذه الأديب عبدالله الشريف في محاضرته "المفكر والأديب الراحل عبدالله أحمد عبدالجبار" ضمن فعاليات التأبين التي نظمتها خميسية الجاسر صباح أمس للأديب الراحل. الشريف قال إن عبدالجبار أسس مع بعض أصدقائه المصريين "رابطة الأدب الحديث" في القاهرة حيث كان نجماً يعلم ويؤلف وحيث كان صالونه الأدبي مزاراً ثقافياً يجتمع فيه مثقفون مصريون وسعوديون وعرب. وروى الشريف كيف تعرض الأديب الراحل لصدمات كبيرة في حياته، أصعبها إقالته من منصبه رئيساً للبعثات بمصر، وصدمة أخرى حينما زج به عبد الناصر في غياهب السجن لعام ونصف مع بعض المثقفين المصريين والعرب ممن كانوا يرتادون صالونه الأدبي. وفي هذا السياق وصف الشريف الراحل بأنه كان عاشقاً للحرية، عاش ومات من أجلها، وحينما أفرج عنه لم يطق مصر وغادر إلى بريطانيا حيث عاش عشر سنوات عجاف عمل خلالها في معهد للغة العربية لغير الناطقين بها، وتعتبر من أقسى المراحل التي مر بها عبد الجبار. واستطرد الشريف في حديثه لرواد خميسية الجاسر عن الراحل، أن الملك فهد حينما كان ولياً للعهد زار بريطانيا وحدثه سفير السعودية بلندن آنذاك ناصر المنقور (رحمه الله) عن ظروف عبدالجبار وما يعيشه من معاناة، فقام الملك فهد بزيارة إلى المعهد الذي يدرس فيه عبدالجبار، ورأى تدريسه وأعجبه فأمر بتجديد جوازه وأن يعود إلى بلده متى ما أراد، وتبرع الملك فهد بنقل مكتبته التي كانت في مهجره على طائرة خاصة من لندن إلى جدة، بعد تبرعه بمكتبته الأولى لجامعة الملك عبدالعزيز. وأضاف الشريف أن الملك فهد أرسل كذلك لعبدالجبار شيكاً بخمسة ملايين ريال، ووُجد الشيك بعد وفاته بين صفحات أحد كتبه دون أن يصرفه. ووصف الشريف عبدالجبار بأنه كان محباً عاشقاً لوطنه، حيث كان قد أوصى منذ كان في لندن بأن يدفن في مكة، وبعد عودته عمل مستشاراً لجامعة الملك عبدالعزيز وحينما علم أنه منصب صوري كان يعيد الراتب للجامعة حتى تركه، مبيناً أن الراحل تأثر كثيراً بما أصابه من صدمات متلاحقة جعلته يعيش منعزلاً بعيدا عن الناس عزوفا عن الحياة الاجتماعية لكنه كان يصرف وقته في مكتبته التي تحتل في بيته كل الغرف والصالات والممرات إلا قليلاً، مشيراً إلى أن الراحل ظهر عليه النبوغ باكراً منذ كان يتردد على الكتَّاب، ثم تميز عند الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، ثم المراحل اللاحقة وحتى التحاقه بدار العلوم بالقاهرة، ووصفه بقوة الإرادة، وقوة الشكيمة. وكشف الشريف أن الراحل كان يرفض كثيراً أن تعاد طباعة كتبه، حتى أقنعه تلميذه المقرب وزير البترول الأسبق أحمد زكي يماني الذي كانت أمنيته أن ينفق على هذا المشروع الوطني، وقال الشريف: "فرح يماني بخبر موافقة عبدالجبار حينما حملته له وتوليت أنا ومحمد سعيد طيب طبع مؤلفاته الكاملة، وهي أهم خطوه قمنا بها، حيث بدأنا بتتبع مقالاته ومؤلفاته وقصصه ومسرحياته ومحاضراته، وكان همنا الوحيد أن نخرج المجموعة قبل وفاته ليراها، وقد رأينا البشر يعلو محياه بعد أن طبعنا المجموعة وأهديناها إليه". وعرج الشريف بحديثه على أهم كتب عبدالجبار "التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية"، حيث قال إنه في الأصل محاضرات ألقيت على طلاب الدراسات الأدبية واللغوية بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية، وهو جزآن الأول خاص بالشعر طبع بالقاهرة عام 1959، والثاني الخاص بالنثر ولم يطبع حتى تم طبعه مع المجموعة. وأضاف: "ويعتبر الكتاب بجزءيه أول دراسة عن تاريخ الأدب السعودي ونقده وظل المرجع للدراسات النقدية لكل البحوث التي صدرت بعده عن الأدب السعودي. ولن تجد دراسة لم تستفد منه ولم تضمه قائمة مراجعها والكتاب الآخر من حيث الأهمية "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي" الذي شارك الراحل في تأليفه أحد أصدقائه وهو الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي، ولم يكتب منه سوى صفحات قليلة، وبين أن الكتاب دراسة عن الحجاز لا تجد مثيلاً لها". وتحدث الشريف بأسف وقال إنه على الرغم من أن الراحل لديه أسرة كبيرة، فإن شقيقته أستاذة الأدب بجامعة أم القرى فاطمة عبدالجبار هي التي أقام عندها عندما كان يعاني من أعراض الشيخوخة وبلغ التسعين عاماً، وكلما تحسنت حالته أحضروه إلى منزله في جدة حيث مكتبته العامرة التي آلت إلى جامعة أم القرى بعد وفاته.