تدمع عيناك حينما تفقد أخاً عزيزاً شرب من كأس القدر. ففقد العزيز من أعظم ما يُبتلى به المرء، قريباً كان، أو صاحباً. وما الدهرُ إلا هكذا فاصطبر له رزيةُ مالٍ أو فراقُ حبيبِ عندها، تتداخل المشاهدات للناظر، كما صوّر ذلك البحتري في أشهر قصائده، ووصف الحمام حينما ينوح للفرح، والحزن. وكيف أن صوت الشادي يصلح للمأتم، والعرس: غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شاد وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيس بصوت البشير في كل ناد أبَكَت تلكم الحمامة أم غنّت على فرع غصنها الميّاد غصة أبدية حين يأتي الصباح، ولا ترى من تحب أمامك، سوى بقايا من رسم محياه، فتُثير شجوننا، وتُؤرق جفوننا. فالموت هو لغة التراب إلى التراب، وصدق الله القائل: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى . وستبقى هذه اللغة هي القائمة، والباقية، رغم صمت الرحيل، وبعد المسافات، وانكسار الرسالات؛ لتؤكد سنة الله في الاجتماع، والافتراق. وقدر الله المحتوم في الموت، والحياة. تداعت عليّ مشاهد الموت، حين عادت بي الذاكرة إلى الوراء، وزاد الإحساس بالألم، وأنا أتذكر - أخي - عبد الرحمن بن عبدالله القاضي، والقدر يطوي مرحلته تلو مرحلة؛ لتتداعى معها في المقابل كلمات العزاء، فلن يُخفف حزننا إلا لقاؤك في الآخرة. وما هذا الابتلاء الذي أصابك في آخر عمرك، إلا رفعة لدرجاتك، وتطهيرا - بإذن الله -. ولا يزال الابتلاء بالعبد حتى يأتي يوم القيامة، وقد كُفّرت سيئاته؛ كما ورد في الخبر: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة». رحمك الله - أخي - عبد الرحمن، فلن نستطيع قراءتك مرة أخرى، بعد أن مررت من هذه الدنيا إلى صدع من الأرض. وسنقف على مرسى الأحزان؛ لنبكي على من يستحق البكاء، وننقش بدموعنا ما تُريد الحياة أن تكتبه في صفحاتنا. وستبقى تلك الأسطر رسالة وفاء، وحب، وامتنان. ولعل حسن مقصده، ومعتقده في الله يشفع له. وإننا لا نملك إلا الدعاء الخالص من الله: أن يغفر له، ويرحمه، وأن يفتح له بابا تهبّ منه نسائم الجنة، لا يُسدّ أبدا.