لا يبدو فارق كبير بين اللص ومَنْ يقترض من صاحبه مالاً ويماطله ولا يوفيه، أو يخدع شخصاً في بيع فيغبنه، أو يبيع سلعاً مغشوشة مع إخفاء عَيْبها؛ فكلها وجوه لعملة واحدة، هي: (أكل أموال الناس بالباطل). وإنك لتعجب من شخص سقط على صاحب له يطلبه ويسأله ويستميله أن يُحسن إليه ويُقرضه.. حتى إذا قام بواجب الأخوة ومستلزمات المروءة وأعطاه ما أراد كشَّر له عن أنيابه وولاه ظهره وقفاه، ونسي ما كان عليه من الإحسان له! وهذا الخُلُق في غاية الدناءة وسقوط الهمة. ولعلك تعجب معي أيضاً من صورة تتكرر كثيراً في ألوانٍ مختلفة، من أشكالها ما ذكر لي صديق أن صاحباً له تلطف معه وتملق إليه وتقرب منه حتى يقرضه, وبعد أن أعطاه ما أراد - بوعد أن يرد المال بعد شهر - مضى شهران وصاحبي لم ير شيئاً ولم يفاتحه بشيء. يقول: فأرسلت له رسالة جوال أذكر له حاجتي إلى المبلغ، وأن يحوله لحسابي، فرد برسالة ممتلئة بالإسفاف يقول فيها: (أنا أعرف رقم حسابك فلا تزعجني، إذا انتهيت منها رددتها!!). وهذا الإزعاج الذي يتحدث عنه رسالة جوال بعد شهر من وجوب الوفاء!! ولا يخفى عليك أيها المكرَّم أن مثل هذه الدناءة توجد لدى بعض من سفلت أخلاقهم، وضاعت أماناتهم {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} في صور متنوعة من ألوان جحد المعروف، ومقابلة الإحسان بالجحود والنكران، وكم تساهم أمثال هذه المواقف في منع الخير والمعروف بين الناس إذا شاعت هذه التصرفات، وكثرت وانتشرت، فيضِنّ الغنيّ بماله، ويُحجم صاحب الجاه عن الشفاعة للناس ومساعدتهم بجاهه إذا ما لُدِغوا من أشباه هؤلاء، فيقل المعروف والخير بين الناس، وتنقطع العُرى وتعم البلوى. وأذكر أن شخصاً سألني عن مال أخذه من آخر، ولم يوفه إياه، والآخر يطلبه حقه سنين حتى مات، فجاء إلى أولاده ليرد لهم حق أبيهم فقالوا له: (اذهب وأعطه إياه في قبره، حرمته من الاستمتاع به في حياته فسيأخذه وافياً يوم لا تُظلم نفس شيئاً)، ورفضوا استلام المال، فجاء وهو قلقٌ منزعج، فقلت له: (لو كان قلقك هذا لحقوق الخلق عليك في حياة الرجل لما أخرته لحظة واحدة). والقصص في ذلك لو فُتحت ما أُطفئت حرقتها عند من اكتووا بلهيبها. ولا يبعد عن الصورة السابقة أولئك الذين يدلسون على الآخرين في بيعهم، فيأتون بأردى البضائع مما قد يكون فيه أضرار صحية، ويُخفون ذلك ولا يظهرونه، أو يبيعون أشياء قد انتهت صلاحيتها ويكتمون ذلك ولا يبينونه، فكم سيتضرر بسببها من أخذها ولم يعلم بحالها؟! وقد دخلتُ صيدلية ذات مرة - وهي في وسط البلد - لأخذ حليب أطفال؛ فنظرت في تاريخه فإذا هو قد انتهى قبل شهرين، وحوله خمس علب مثله في الانتهاء، فكيف لو أخذها شخص ولم ينظر لتاريخها وأعطاها ذاك الطفل الرضيع البريء؟! أما الأغذية سريعة الانتهاء فالغش ببيعها منتهية والتلاعب بصحة المواطنين بها ظاهر لا خفاء فيه. فأين ضمائر أمثال هؤلاء؟! وأين الرقابة الحازمة معهم؟! فلو وُجِد الردع «بحزم دلالة هذه الكلمة» لما تجرأ أصحاب الأسواق على الغفلة أو التغافل عن متابعة بضائعهم بأنفسهم، كلٌّ في متجره ودكانه. فتتبع مثل هؤلاء الباعة والإبلاغ عنهم للجهات المختصة جانب من جوانب الاحتساب المشروع، وليس هو من قطع الرزق كما يتوهمه بعض الناس. إن الناس ينظرون إلى اللصّ نظرة احتقار ومهانة، وحُق لهم ذلك لسوء فعله وفظاعة جُرمه، لكنّ هناك نوعاً آخر من اللصوصية أشدّ منها وأقبح، توجب علينا أن ننظر إليها بنظرة أشدّ ازدراء مع المحاسبة والمطالبة بها، وهي تلك الأيادي التي استؤمنت على شيء من مصالح المسلمين وأموالهم فعبثت فيها، وجعلت تخوض فيما وُلِّيت من بيت المال وكأنها تقلب ملكها الشخصي؟! فاللص يسرق من بيت أسرة واحدة، والسارق من بيت المال (بأي ذريعة) يأخذ حقًّا هو للمسلمين جميعًا. واللص لم يؤتمن أصلاً على مال الناس، بخلاف السارق من بيت المال فإنه يزيد عليه لؤماً وخسَّةً؛ لأنه اؤتمِن فسرق، واستُودِع فخان؛ ليُشبع طمعه وجشعه، فلم يراعِ حق المنصب الذي وُضع فيه، ولم يخش ربه الذي علِم أنه سيحاسبه على تلك الأكباد الضعيفة التي أكل حقها. إن كل من أُعطي مسؤولية، صغرت أم كبرت، فهو مؤتمن عليها، ولا يبيح للشخص أيًا كان منصبه إذا رأى غيره يخون أن يقتدي به في خيانته؛ فالقدوة في الخير لا في الشر، ونهب غيره لا يبرر له أن يحذو حذوه، وإلا فهناك مَنْ يقتل ويزني ويسكر فلْيقتد به في أفعاله؟! ومن وصل به تفكيره إلى هذه الدونيَّة كان كسلة المهملات تجمع أوساخ القاذورات؛ لذا جاءت الوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنَك، ولا تخُن مَن خانَك). «وكلما كبرت لقمة الأخذ كانت الغصة بها أعظم يوم لا ينفع الندم». * عضو الدعوة والإرشاد ببريدة