فقد التعليم الخاص، منذ أيام رجلاً عصامياً، وهبه الله ذكاء مبكراً، وقدرة على العمل والمتابعة فهو طموح ولا يعرف لليأس أو القنوط طريقاً إلى نفسه. إنه الشيخ - كما يسميه عارفوه - ولكنه الأستاذ كما يحب أن يسمي نفسه: عبدالله بن محمد بن غانم المولود في مدينة جلاجل، فقد بصره في حداثة سنه، ولكن الله عوضه بالبصيرة وإرهاف الحس، وقد عاش في أسرة فقيرة، ولكن الله أغناه بصدقه وإخلاص النية. حتى إن والده - رحمه الله- أغرقه الدين- فجاء أ حد الغرماء طالباً ما له عنده، أو كفيلا غارماً، لمدة معيّنة؛ لأنّ الله يقول: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) وقال: خذ من أولادي من شئت كفيلاً وكان الشيخ عبدالله في مبدأ عمره، وبرزت عليه سيماء النجابة، ومخايل الذكاء، فتوسم فيه هذا الغريم الشهامة والرجولة المبكرة. فقال: أريد كفالة هذا الكفيف، فقال الأب: وماذا يجدي هذا، وهو كما ترى كفيفاً، ولم يبلغ الحلم، كان هذا الحديث في وسط الستينيات من القرن المنصرم، لكنه متطلع للعلم وتائق إليه. قال الغريم: سأصبر حتى يكبر، المهم أنْ أضمن حقي عنده, فيه بركة إن شاء الله. مضَتْ الأيام ومعها السنين سراعاً، وذكاء ونجابة هذا الغلام، يزداد ويسبق سنيّ عمره، وفي أول السبعين أمر الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، على سماحة المفتي الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، بفتح المعهد العلمي، لطلاب العلم بالرياض. فكان عبدالله الغانم -رحمه الله- من الملتحقين بهذا المعهد لرغبته في العلم، ومن فطنته وبرّه بأبيه كان هاجسه وفاء ذلك الدّين؛ فأول ما بدأ فيه التوفير من المكافأة التي تعطى لكل طالب، حتى يسدد ما تحمل عن والده من دين، حتى أيقن بالكفاية لسداده، والدين ذلك الوقت قليل جداً بالنسبة للوضع الحالي، لكن حمله ثقيل، فارتاح بعد سداده عن أبيه، وهدأت نفس الأب في هذه الرجولة المبكرة فصدقت فراسة ذلك الغريم. وبمسارعة عبدالله في سداد دين أبيه، كسب بذلك محمدة مع دعاء كل العارفين بالأمر، وبدأت تبرز مكانته في المجتمع، ويطيب الثناء: صفات نبيلة تدل على صاحبها مهما كان عمره. كبر عبدالله وكبر معه طموحه، مستسهلاً الصعب.. وكان في تلك الفترة قد بدأ أسلوب تعليم فاقدي البصر يبرز، ومعه شيء جديد غير معروف في البيئة، هو الكتابة بطريقة منسوبة لمخترعها (برايل). فكان الشيخ عبدالله مع مواصلة الدراسة بالمعهد، يتعلم هذه الطريقة قراءة وكتابة، ويجمع نفراً من المكفوفين لكي يتعلم وإياهم هذا العلم الجديد، قراءة وكتابة. وهؤلاء من قرناء الدراسة في الدوام الرسمي. ومن اهتمامه، ومع ذكائه، فقد أتقنها بعضهم، وعزف عنها آخرون، أو لم يوفقوا فيها، لكن الشيخ مضى في مشواره هذا، بطموح وعدم اليأس، فجعل نصب عينيه الاهتمام بهذا النوع من التعليم الذي أدرك بأنه بغيته، حيث أحبه وتوسع فيه ممتثلاً بقول الشاعر: لأستسهلنّ الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر وما هان عليه أن يقتصر بما علم من مبادئ هذا العلم، الجديد في وقته، بل زاد حرصه واهتمامه، لإحساسه بحاجة ملحة لشريحة كبيرة من المجتمع لهذا العلم، ليبرزوا في مجتمعهم ويشاركوا في نهضته. بل جدّ واجتهد في إحداث شيء مهم، فزاد حرصه وتطلعه البعيد، لكي يبدأ بإدخال هذا العلم، الميدان التعليمي في المملكة، حيث شعر بالأهمية.. فكان هذا الجهد يعتبر جديداً، ولا يريد الوقوف فيه عند حد معين، بل يلح ويطلب المزيد، ويلاحق المسئولين والقمة في الهرم الإداري والتعليمي، ثم المتابعة مع التنفيذيين فأخذوا بيده، وشدوا عضده، بالتيسير والتنفيذ، لما بان جده وإخلاصه وحماسته.. وخاصة الملك فيصل -رحمه الله- ووزير المعارف الشيخ حسن بن عبدالله رحمه الله. - ومع التأييد تابع إيجاد برامج خاصة للمعاقين - ويعني به- المكفوفين والمكفوفات، فأحدث قسماً خاصاً بإمكانات جيدة، وفق مخطط مرسوم وبإدارة مستقلة بوزارة المعارف. - وبذلك حظي بتأييد من المسؤولين له، ومع إلحاحه ومتابعته؛ حيث كان يعطى وفق ما يطلب لثقتهم فيه. - ثم حقق سبقاً: فكان أول من مثل المملكة في الاجتماعات الدولية، المتعلقة بالمكفوفين في المملكة. - وقد كان هاجسه الذي يسعى فيه: أنْ يخدم المكفوفين، بالمملكة ويرفع من مستواهم وطموحاتهم، ليهيئ لهم فرصاً للعمل وإثباتاً للوجود في المجتمعات. - وله أولويات في هذا الميدان منها: إنشاء وتشغيل أول مطبعة في المملكة، لتطبع فيه الكتب المدرسية وغيرها، ثم أنشأ صحيفة الفجر كصحيفة جديدة، توسعتْ بها المهمة بعد المتابعة ومدارك المكفوفين، حيث زادت ثقافاتهم العلمية وفي سائر الفنون مع الأخبار اليومية، حتى لا يكون منغلقاً عن العام. - وقد امتد نشاطه وخبرته مع حماسته إلى إنشاء مراكز لتأهيل المكفوفين والمكفوفات في جهات مثل: الأردن والبحرين، فضلا عن دوره ونشاطه في المملكة، حيث أنشأ مكتبة ناطقة ومطبعة على طريقة برايل، طبعت القرآن الكريم وتوزيعه للجهات المحتاجة، وغير ذلك من أعمال. - وقد عرفته منذ أيام الطلب، وتتبعت أعماله ونشاطه ومكانته، مما يحتاج إلى مجال واسع جداً فله عند المسئولين مكانة وتقدير، فيسهلون مهماته، ويذللون العقبات التي يوقفها الروتين، وما ذلك إلا لمعرفتهم في جده وإخلاصه ونزاهته، بحيث لم يغادر منزله في الملز حتى توفي فيه، مع أنه لإخلاصه وطموحاته، قد ارتقت، وهمته إلى المحافل الدولية قد توسعت. كما جمعتني به الأسفار في الخارج، وكلما تهت دلني بيسر وسهولة، في الطريق ومع سائق الأجرة حتى أن أحد أصدقائه المرحين قد تمثل بهذا البيت وهو يعنيني فيه: أعمى يقود بصيراً لا أباء لكم قد ضلّ من كانت العميان تهديه فعرفت في صحبته نبل الأخلاق والوفاء. وأذكر أن شخصاً قد ألف عن الأذكياء من العميان، وكان منهم الشيخ محمد إبراهيم والشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله الغانم وغيرهم وترجم لهم فيه وبأعمالهم.. أصابه مرض في آخر عمره، فمات منه -رحمه الله- جعل الله ما أصابه كفارة له وأسكنه فسيح جناته، وجعل في ذريته خير خلف لخير سلف.