رحمك الله يا أبا مساعد ... الشيخ الجليل عبدالله بن محمد الغانم البصير في علمه وصفاته وشخصيته. رجل تعليم من الطراز الأول حمل رسالة واضحة وجليلة لفئة غالية وعزيرة من المجتمع وهم المكفوفون، دأب وناضل من أجل حقوقهم وهو واحد منهم ، وبذل الغالي والنفيس لتحقيق أحلامهم. ولم يكل ويتراجع عن رسالته السامية. إن أعلى درجات إنكار الذات أن يصبح الإنسان شمعة تحترق لغيره. كسب رحمه الله محبة وتقدير واحترام البعيد قبل القريب بتواضعه ونبل خلقه ولبى حاجات إخوانه المعوقين في الداخل والخارج، وقف على منصة الأممالمتحدة عدة مرات، كان فيها خير ممثل للوطن الغالي ومطالباً بمزيد من الحقوق للمكفوفين، لم يبخل بجاهه للشفاعة لكل من يعرف ومن لم تربطه به صلة قرابة. وضح جلياً تميزه عن من زامله في دراسته في العلوم الشرعية بكلية الشريعة التي تخرج فيها عام 1380ه. ودرس على يد سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم وسماحة الشيخ عبداللطيف بن ابراهيم آل الشيخ مدير المعاهد العلمية آنذاك، ونهل من علمهم وفقههم (رحمهم الله) جميعاً، لازمه تطوعاً أربعة من زملائه المبصرين تناوبوا على القراءة له من كتبه ومراجعه الدراسية ولمدة أربع ساعات يومياً وهم: الشيخ عبدالعزيز الأحمد السلمان، والشيخ عبدالعزيز بن ابراهيم السلمان، والشيخ محمد بن عبدالرزاق، والشيخ محمد السعيد، كذلك قرأ له زميله المبصر الأستاذ محمد بن سعد المشعان (أمين عام التعليم الخاص) رحمه الله، والأستاذ عبدالعزيز العبدالمحسن السريبي، الكتب الثقافية وكتب تعليم اللغة الإنجليزية في الجامع الكبير (جامع الإمام تركي بن عبد الله) وقد سكن ببيت الأخوان قادماً من جلاجل، بعد ما ترك إدارة المدرسة الابتدائية للمبصرين لإستكمال تعليمه. كان هدفه - رحمه الله - واضحاً قبل أن يلتحق بكلية الشريعة بالرياض، فقد وافق سماحة الشيخ عبداللطيف بن ابراهيم آل الشيخ مدير المعاهد العلمية بكلية الشريعة 1372ه آنذاك، على تخصيص فصل مسائي غير رسمي ليكون بداية لتعليم طلاب المعهد وكلية الشريعة من زملائه المكفوفين القراءة والكتابة بطريقة برايل مجاناً، بعد أن تعلم الحروف الهجائية بطريقة برايل على يد الشيخ أحمد باحسين، هو وزملائه، محمد بن سعد بن حسين ومحمد بن عبدالرحمن الفدا وعلي السويد الذين كان لهم الفضل الكبير في هذا المجال. جمع ما بين العلوم الشرعية والعلوم الأخرى والمهارات لتعليم طريقة برايل واللغة الإنجليزية، فأصبح متميزاً عن زملائه المكفوفين. كانت أحلامه أكبر من أن يتحملها جسد، إلا أن عزمه وإصراره قد تغلب على قلة حيلته فهو الرجل الذي قدم من بلدة جلاجل، وابن المزارع الشريف الذي دفع بابنه الكفيف ليخوض غمار هذه التجربة الشاقة، لكن إيمانه وتبنيه قضيته - تعليم المكفوفين والمطالبة بحقوقهم - وجعلها هدفه السامي وإيمانه بربه جعله أكثر تفاؤلاً وثقة بقدراته التي خفيت على أقرانه وأقرب الناس له حتى إن والدته تدعو الله أن يطيل عمر أبيه ليرعاه. شهد له زملاؤه المكفوفون ببراعته في تعلم وتعليم طريقة برايل التي أتقنها وبرع فيها، كما ذكر ذلك الدكتور محمد بن سعد بن حسين (طه حسين المملكة)، ثم انطلق هو وزملاؤه الدكتور محمد بن سعد بن حسين، والدكتور محمد بن عبدالرحمن الفدا، والشيخ علي السويد، ويعاونهم في الإدارة التعليمية الشيخ المبصر إبراهيم الناصر مستشار وزير العدل عام 1374ه. وفي عام 1378ه، وحينما قرر كل من الدكتور محمد بن حسين والشيخ إبراهيم الناصر الانشغال بمجالات أخرى، واصل الشيخ عبدالله الغانم، الذي تولى تعليم المكفوفين وتلقى المساندة والدعم من الملك فهد بن عبدالعزيز حينما كان وزيراً للمعارف آنذاك، لهذا النوع من التعليم الخاص، وذلك بتخصيص فصول مسائية في مدرسة جبرة الابتدائية (مدرسة سعد بن جبير حالياً) بالرياض، ووجه الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله – بتخصيص إعانة سنوية لشراء الكتب والأدوات وما يلزم ذلك لدعم نشاط التعليم الأهلي للمكفوفين، ثم تبرعت الأميرة وضحى بنت محمد بن العريعر والدة الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمهما الله - عام 1380ه، بسكن ليكون مقراً للفصول المسائية التي كانت تضم مئة طالب منهم مكفوفين كبار في السن، وكذلك أربعين من مكفوفي البصر من صغار السن يدرسون في الفصول الصباحية، تبنى بعد ذلك الشيخ حسن بن عبدالله بن حسن آل الشيخ - رحمه الله - وزير المعارف رسمياً إنشاء معهد النور للمكفوفين بشارع الظهيرة بالرياض واستأجر مبنى لذلك، ثم استمر في تعليم المكفوفين حتى وصل إلى ما وصل إليه كما ذكر ذلك رفيق دربه الأستاذ محمد بن سعد المشعان، رحمهما الله جمعيا. لقدا نال هذا الرجل والمربي الفاضل في مسيرته كل التقدير والعرفان من أعلى المستويات من قادة هذه البلاد المباركة، فقد أرسل له الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، عام 1392ه، بكتاب شكر يقول فيه "إننا لنقدر ما بذلتموه من جهود صادقة في سبيل التعليم الخاص وتطويره حتى أصبح حقيقة واضحة للعين، ممثلاً في أربعة عشر معهد كلها تؤدي واجبها على الوجه الأكمل ونرجو أن تستمر في النمو حتى تصل إلى المستوى المرجو بإذن الله فنرى خريجيه أعضاء عاملين في المجتمع معتمدين على الله سبحانه ثم على أنفسهم". وقال له الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله حينما تشرف الشيخ عبدالله الغانم بالسلام عليه في الديوان الملكي، وقدم تقريره عن حضوره، وإلقاء كلمة المملكة العربية السعودية في الأممالمتحدة "إنني أفتخر بك يا عبدالله فأنت خير من يمثل المملكة في المحافل الدولية تبين رسالة المملكة تجاه المعاقين في العالم". وكما ذكر لي ابنه عادل (المتخصص في مجال المعوقين) الذي سينهي درجة الدكتوراه في نفس المجال قريباً، قال خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يوم الجمعة الماضية بتاريخ السابع من شعبان سنة 1432ه معزيا ومواسياً عائلة الفقيد - حفظه الله - "إن والدكم الشيخ عبدالله خدم دينه ووطنه فامشوا على خطاه" كذلك اتصال صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز وهو صديق لسموه معزياً ومواسياً وقال سموه: "إنه صديق لي اعتز فيه وحنا وإياه رسالة واحدة فهو رجل عصامي ومكافح"، وكان لسموه السبق في خدمة المعوقين في العالم ولا يزال يرعى المؤسسات ذات النفع العام مثل هيئة (إبصار الخيرية) واليونيسيف. وجدير بالذكر أن الشيخ يرحمه الله كان شريكاً في التعليم لجميع الأطفال المعوقين بصرياً وضعاف البصر ويتعاون مع سموه في اليونيسيف لضمان التصدي لاحتياجات الأطفال وامتصاص الرؤية للمكفوفين من خلال اتفاقية حقوق الإنسان. كذلك عبّر صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض بعد وفاة الشيخ عبدالله في الساعات الأولى من وفاته وهذا ليس بغريب على سموه الكريم حيث اتصل من خارج المملكة على أبناء المرحوم يعزي فيه ويواسي عائلته، ومما قاله سموه " أدى رسالته الإنسانية على أكمل وجه" وسموه ممن وقف مع المرحوم من بداية عمله ودعمه وشجعه حيث خصص أرضاً في حي السفارات بالرياض ليكون مقرا للمكتب الإقليمي للجنة الشرق الأوسط لشون المكفوفين وله العديد من المواقف الداعمة للشيخ عبدالله الغانم التي تحتاج إلى أن نفرد له موضوعا منفردا. وقد قال معالي الدكتور محمد الأحمد الرشيد وزير التربية والتعليم سابقاً لابناء الشيخ في منزل المرحوم بإذن الله: "إن والدكم شخصية استثنائية عمل كثيرا للمكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة في المملكة والعالم وكنت ألاقيه في المؤتمرات الدولية التي يمثل المملكة فيها" وقد عملا في وقت سابق معاً حينما كان معاليه مديراً لمكتب التربية العربي لدول الخليج حيث كان الرشيد والغانم في مكتبيهما الإقليميين النواة الأولى للتعاون مع دول الخليج العربية قبل نشأة مجلس التعاون لدول الخليج العربية. يحق لأبنائه مساعد، والدكتورة نورة، وخالد، وعادل، وفهد، وخلود، وأسامة، وعهود، وبندر، وتركي، أن يكون لهم الفخر كما يحق لنا أن نفتخر به نحن أبناء هذا الوطن الغالي بجميع فئاته، وعلى صعيد الدول العربية والأجنبية خاصة فئة المكفوفين. لأنه رحمه الله يعد شخصية عالمية، ولا أبالغ إن قلت إنه إذا ذكر أشهر رجالات التعليم في المملكة كان منهم، وإذا ذكر رجالات التعليم العرب كان أحدهم، وإذا ذكر أشهر من عمل في مجال تعليم المكفوفين في العالم كان منهم. وما ذكرته سابقاً اقتباس لبعض من سيرة هذا الشيخ الجليل وذلك من خلال فترة عملي معه لمدة عشر سنوات، ومن المقابلات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية التي أجريت معه رحمه الله. وما كان في حياته ومماته رحمه الله رحمة واسعة. كان ذلك الشيخ عبدالله الغانم رحمه الله البصير الذي سعى بهمة عالية في سبيل تحقيق رسالته الإنسانية والعلمية ولم يثنه عن ذلك أن يكون كفيفاً. تألمنا لفراقك وعزاؤنا ما تركته لنا من رسالة ليكملها خلفك الأجيال وندعو المولى سبحانه وتعالى أن يجزيك ويثيبك خير الجزاء والثواب لما قدمته الذي امتد أثره إلى أصقاع الأرض فضلا عن وطنك. وجعلك الله فيمن قال لهم ادخلوا الجنة فقال كما في الآية الكريمة: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين). وكلنا على ثقة بأن هذا الوطن العزيز الذي دأب دوماً على تكريم رواده وأعلامه وأبناءه المخلصين منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله ومروراً بأبنائه البررة الكرام ولا أدل من ذلك نهج خادم الحرمين الشريفين ملك الإنسانية في تكريم أعلام هذا الوطن ورجالته.