الشمس مشرقة، وشباك البيت إلى الحديقة يبين المنظر بوضوح، والأشجار في قيظ الصيف كأنها فرحة بنسمة، فتستجيب لها حيناً وحيناً برقصة مشجعة.. جدّ الأطفال يرفع نظراته ويعيدها بين التحديق إلى التلفزيون والعودة إلى كتابه وأحياناً يرمق الحضور، لم يفضل الصمت أبداً رغم هيبته، وهو يتأمل الأشياء ككائن حي عليه أن يعطيه اهتمامه الخاص بما يناسبه حتى وإن كان جماداً، فترى جدران منزله ملونة بأشكال عديدة وقد زينها بالصور واللوحات والمزهريات وكانت نظراته إلى خارج الشباك سفراً إلى الطبيعة المتباعدة بعينيه الغارقة بالأحلام رغم شيخوخته وكأنه يفكر بصوت عالٍ.. وبشكل مسموع: أتمنى هذا المشهد لا ينتهي أبداً..اني أشم رائحة الماء هل رششتم الحديقة..؟.. فإن النسيم محمل بشذى الخضراوات.. إنها تلون الحياة بالفلسفة.. أتعرفون..؟.. عندما أراكم منشغلين بين التلفزيون والإنترنت والطبخ وهذا الكتاب.. أؤمن أن الحياة لها أبعاد عديدة ولكن كلها تؤدي لنتيحة واحدة.. إن بعدت المسافات أو قربت وتلك هي المعرفة.. وجدّتهم بين مسبحتها والتحديق بالتلفزيون بعينيها المكتظة بالحكايات، وعلى رغم انشدادها إليه.. توجه كلاماً ناقداً للحاضرين: أليس حكاياتنا أفضل.. إن الأطفال آن ذاك كانوا مولعين بحكاياتنا.. كنا نمضي ساعات من الليل في الصيف تحت النجوم أو في الشتاء حول النار دون أن تتوقف متعة القصص.. غريب أمر التلفزيون وحتى الإنترنت.. شتاءً وصيفاً هما تحت السقف ليس فيهما متعة نجوم الصيف ولا نار الشتاء.. كثيراً ما كانت هذه العبارة المتكررة تحدث جدلاً بين كل الحضور بمختلف أعمارهم، وما أدهشني اأنها عبارة رغم تكرارها لم تكن مملة، لما كانت تثيره من جدل ولا أقول حوار.. وكان ولدي الأكبر مشدوداً إلى الإنترنت بجانب الشباك وهو بين آونة وأخرى يخطف التلفزيون بنظرة ودون أن يعلق على شيء يقاطع الآخرين بعبارته المعهودة: آه.. ولا نعرف هل هي ردة فعل لموضوع في الإنترنت أم تجاه حدث في التلفزيون.. وعندها كانت ابنتي الأصغر ترمقه بنظرة معبرة على أنها هي أفهم منه كتعبيرات أي اُنثى في مراحل المراهقة، منحنية على جدِّها شبه تحتضنه، بعينيها الناعستين وبفضولها المعهود دون اضطراب في النفس وهي تبادل الضوء المنعكس برموشها، وبين آونة واُخرى تعبر عن شيء ما ليلتفت اليها الحاضرون، وهكذا لا يعرفون عبارتها كانت تقصد شيء تقرؤه مع جدِّها في الكتاب أم مشهد من التلفزيون أو أنها ردة فعل تجاه حلم وخيال لمراهقة جميلة.. وكانت عبارتها في هذه اللحظة: إن عتمة الطبيعة تتزحزح أمام قوة الشمس.. أشعر أن الكتاب والإنترنت والتلفزيون يتنافسون بشدة.. كل منهم له دروب يتصارع فيها.. بذلك يكون العلم ليس وهماً وكأنه في ارتباط مع أي شعور تجاه أي وسيلة حسب طبيعة الناس.. ولم أذكر الآخرين من الأهل والأولاد فهم كثر، فهم متوزعون على طول البيت وعرضه، وكل ما في الأولاد شهد يتمازج بسحر رذاذ الشمس، كأنه صورة من الخيال وهو يتراقص ببطء معبراً عن الأشعة الرائعة تنزلق على النور راسمة أشكالاً غير مفهومة في لعبة من الصور والوهم المحبب. ويبقى زوجي كعادته فرحاً من هذا التجمع الأسبوعي، وهو في حركته الدائبة دوماً عندما يتجمهر الأهل في بيتنا، وطالما أرمق بريق دمعة في عينيه لهذا الدفء العائلي وهو يتلعثم في صياغة عباراته.. ليهمس بأذني: أتعرفين النخيل تختلف عن كثير من الأشجار فهي عفيفة لا تتعرى في أي فصل كان وتبقى مكتسية بثوب الاخضرار وكأنها لا تستسيغ التعامل مع الفراغ.. وبقيت أنا بين حركتي الدائبة في مثل هذه العطل، ولكن كنت حساسة لأتابع كل صغيرة وكبيرة وحاجات الآخرين وأيضاً الطبخ وكنت أفرح عندما أشعر بالوجوه منطلقة في بيان كل شخص واهتمامه وهكذا كانت الساعات تنقضي بسرعة.. من المؤسف أن افتقدها لاتساءل هل تعود؟.. مستحيل..