تتعطَّر أحياء القاهرة؛ شوارعها ودروبها وأزقّتها وأعطافها ونسماتها؛ منذ مئات السنين بأريج القصائد والأشعار الدينية وخاصة المدائح النبوية ذات التوهج الأخاذ والحضور الخاص لدى كافة الفئات والطبقات والمستويات الاجتماعية والثقافية؛ حيث يلقيها الشعراء ويتداولها الرواة والمنشدون ويحفظها المتذوقون وعامة البشر في أفئدتهم قبل أذهانهم. وتزداد مجالس الإنشاد الديني وإلقاء المدائح النبوية في أحياء القاهرة؛ وغيرها من المدن والقرى المصرية؛ في المناسبات والاحتفالات الدينية كحلول شهر رمضان المبارك (الذي يكون للمديح النبوي في لياليه شكل وطابع خاص) والمولد النبوي وعيدي الفطر والأضحى وبداية العام الهجري.. وغيرها، ويتعاظم اندفاع البشر إلى السرادقات والمنتديات والمجالس التي تنعقد بالقرب من المساجد والجوامع الكبيرة، ومن أشهرها في مدينة القاهرة مسجد الحسين والجامع الأزهر وجامع السيدة زينب وجامع السيدة عائشة وجامع السيدة نفيسة وجامع محمد علي وجامع الإمام الشافعي. والمدائح النبوية؛ فضلاً عن أهميتها الإبداعية كنمط جوهري من أنماط الشعر العربي؛ تعد بمثابة خيوط نورانية تصل ماضي الأدب العربي بحاضره، فهي لون أدبي خاص، ينفرد بأنه لون عميق الأصالة، قادر على الاستفادة من مستجدات العصر والمذاهب الأدبية الوافدة والمستحدثة بدون أن يتغير طابعه الأساسي، وبدون أن يفتقد جذوره وعراقته وملامحه المميزة. ولا شك في أن المدائح النبوية قد تطورت؛ وتتطور؛ شأنها شأن سائر الأنماط والألوان الأدبية، وقد ساهم في تطويرها وإنضاجها دخول شعراء كبار إلى ميدان الإنشاد الديني والمديح النبوي عبر عصور مختلفة؛ بدءا بحسان بن ثابت وكعب بن زهير ومروراً بالشريف الرضي والبوصيري وابن نباتة المصري ووصولاً إلى أحمد شوقي والمحدثين من المبدعين والشعراء. وربما لم يتقص أحد تاريخ وتطور المدائح النبوية مثلما تقصاها المفكر الراحل الدكتور زكي مبارك في كتابه«المدائح النبوية في الأدب العربي» (أعيد طبعه مؤخراً بمعرفة هيئة قصور الثقافة)، حيث رصد نشأتها وتطورها وخصائصها؛ وتوقف عند أعلامها في قصائدهم الخالدة. ومما يراه د.مبارك أن المدائح النبوية لون من فنون الشعر للتعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص. وأكثر المدائح النبوية قيل بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وما يقال بعد الوفاة يسمّى رثاء، ولكنه في الرسول (صلى الله عليه وسلم) يسمى مدحاً، كأنهم لحظوا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) موصول الحياة، وأنهم يخاطبونه كما يخاطبون الأحياء. ومن أقدم ما مُدح به الرسول (صلى الله عليه وسلم) قصيدة الأعشى التي يقول في مطلعها: «ألم تغتمضْ عيناك ليلة أرمدا.. وعادكَ ما عادَ السليمَ المسهَّدا»، وقصيدة كعب بن زهير التي افتتحها بقوله: «بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ.. متيّمٌ إثرَها لم يُفْدَ مكبولُ»، وقصيدة حسان بن ثابت التي يقول فيها: «أكرِمْ بقومٍ رسولُ اللهِ شيعتُهمْ.. إذا تفرّقت الأهواءُ والشِّيَعُ». وعلى امتداد العصور تأصل وتطور فن المدائح النبوية بمقدم شعراء كبار دخلوا هذا الميدان بقوة، ومنهم: الكميت بن زيد الأسدي المولود في عام 60 الهجري؛ ومن أبياته الشهيرة: «فما لِيَ إلا آل أحمدَ شيعةٌ.. وما ليَ إلا مشْعب الحقّ مَشْعَبُ»، والشريف الرضي في القرن الرابع الهجري؛ ومهيار (وقد عرفا بالإكثار في مدح آل البيت)، والمصري الإمام البوصيري في القرن السابع الهجري؛ وهو صاحب القصيدة الشهيرة«البردة» التي يقول في مطلعها: «أمن تذكّر جيرانٍ بذي سَلِمِ.. مزجْتَ دمعاً جرى من مُقْلةٍ بدمِ»، وتعد هذه القصيدة من أهم القصائد بين المدائح النبوية حتى وقتنا هذا، نظراً لجودتها ورصانتها، ولأنها أكثر القصائد ذيوعاً في باب المدائح النبوية، ولأنها مصدر إلهام متجدد لكثير من القصائد التي أُنشئتْ بعد البوصيري في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن أبرز من نهجوا نهجها في العصر الحديث أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي يقول في مطلعها: «ريمٌ على القاعِ بين البان والعلمِ.. أحل سفك دمي في الأشهرِ الحُرُمِ». ومن الشعراء الذين طوروا فن المدائح النبوية أيضاً ابن حجة الحموي (767ه - 837ه)؛ صاحب القصيدة«البديعية» الشهيرة التي يقول فيها: «محمدُ ابنُ الذبيحينِ الأمينُ أبو البتولِ، خيرُ نبيٍّ في اطّرادِهِمِ». وهناك أيضاً ابن نباتة المصري (686ه - 768ه) الذي ترك مدائح نبوية شهيرة؛ منها همزيته التي يقول في مطلعها: «شجونٌ نحوها العشّاقُ فاءوا.. وَصَبٌّ ما له في الصبر داءُ». أما الشعراء المحدثون الذين اهتموا بالمدائح النبوية وطوروها؛ فعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي الذي خرج من عباءة المديح النبوي التقليدي إلى رحابة التعبير عن الدعوة الإسلامية بقيمها ومعانيها الإيجابية. وقد كان أحمد شوقي من أكثر شعراء عصر الإحياء والنهضة الذين عنوا بالشعر الديني والمديح النبوي في أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ومن قصائده الشهيرة في هذا السياق؛ الهمزية التي يقول في مطلعها: «ولد الهدى فالكائناتُ ضياءُ.. وفمُ الزمانِ تبسّمٌ وثناءُ»، والميمية «ريمٌ على القاع بين البان والعلمِ.. أحلَّ سفكَ دمي في الأشهرِ الحرمِ»، والبائية«سلوا قلبي غداة سلا وثابا.. لعلَّ على الجمالِ له عتابا»، والتائية«إلى عرفات الله يا خير زائرٍ.. عليكَ سلام الله في عرفاتِ». ومن الشعراء المعاصرين الذين يكتبون القصيدة الدينية والمديح النبوي الشاعر محمد التهامي، ومن آرائه أن القصيدة الدينية موجودة في العصر الحالي أكثر من أي عصر مضى؛ موجودة في الوسط الشعري العربي المعاصر بكثرة وغزارة وتمتلك قدراً كبيراً من الصدق والعمق والمستوى الفني الرفيع، ولكن هذه القصيدة تبدو شحيحة على مستوى الإعلام العربي الذي يقاطع القصيدة الدينية تقريباً، والسبب هو الاتجاه الثقافي الحداثي الذي يسيطر على أدوات الإعلام، كما أن التعامل مع القصيدة الدينية والمديح النبوي قد أصبح يتم على مستوى المناسبات والتجمعات الاحتفالية فقط؛ أما على مستوى النشر المنظّم فلم يعد هناك ناشر يقبل على طبع ديوان للقصيدة الدينية أو للمديح النبوي لأنها تجربة غير مربحة مادياً في معظم الأحوال. وهناك من العلماء والأئمة المعاصرين من حققوا إضافات مهمة للمدائح النبوية والقصيدة الدينية عموماً في شكلها ومفهومها الجديد، وعلى رأسهم الداعية الشيخ محمد متولي الشعراوي (1911 - 1998) الذي أولى الشعر اهتماماً في مراحل مبكرة من حياته؛ ومن أبياته: «يا أمة الإسلام عرضك يُكلمُ.. وإذا استكنتِ ولن يكون سنعدمُ»، والدكتور أحمد عمر هاشم الذي كتب الشعر الديني أيضاً، ومن أبياته: «يا أخي في الله نادِ.. جَمّعوا كل الأيادي»، والداعية الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي الذي احتفى بالشعر وكتب العديد من القصائد؛ ومن قصائده الشهيرة نونيته التي يقول في مطلعها: «ثار القريضُ بخاطري فدعوني.. أفضي لكم بفجائعي وشجوني. فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى.. والشعر عودي يوم عزف لحوني».