غادرنا مقر إقامتنا في جازان في الساعة الثامنة صباحاً من يوم الأربعاء 11-4-1432ه إلى جبال الريث ووادي لجب التي تبعد عن جازانالمدينة حوالي الساعتين عبر طريق جيد التنفيذ بمسار واحد في بعض أجزائه، والعمل جارٍ في بناء طريق مزدوج بمواصفات عالية، كما يبدو في الأجزاء المُنجزة منه، مررنا أثناء الطريق بمحافظات صامطة وصبيا والدائر توقفنا في الأولى حيث زرنا المتحف الوحيد في منطقة جازان، وهو من أوائل المتاحف التي أقامتها وكالة الآثار يوم كانت تتبع لوزارة المعارف سابقاً. يدل على قدمه أنه أصبح صغيراً على منطقة غنية بآثارها، وهو بحاجة إلى ترميم أو إقامة متحف جديد بمواصفات حديثة. أطلعنا القائم على إدارة المتحف على محتوياته، وهو يجمع بين القطع الأثرية ومنها النادرة خاصة العملات التي تعود إلى عصور مختلفة، سك بعضها في منطقة جازان منذ العصور الإسلامية المبكرة ومنها ما يعود إلى بداية القرن التاسع عشر الميلادي، حينما سك الشريف حمود أبو مسمار أمير وشريف أبو عريش الذي دخل في طاعة الدولة السعودية الأولى، وهو الوحيد في عهد تلك الدولة الذي سك عملة باسمه، وأنا لا أعلم أن الدولة السعودية الأولى والثانية وحتى الدولة السعودية الثالثة في عهد الملك عبد العزيز سكت عملة باسمها قبل ضم الملك عبد العزيز الحجاز عام 1343ه، فحينها بدأ سك عملة باسمه - رحمه الله - المتحف عموماً فقير في محتوياته، غير جيد في عرض المحتويات الأثرية والتراثية، إلا أن القائم عليه واسع الاطلاع بعلم الآثار يملؤه الحماس والغيرة على ما لم يكتشف من آثار جازان، وعلى ما اندثر بأسباب عوامل مختلفة منها عدم التنسيق مع القطاعات الأخرى في الحفاظ على مواطن الآثار، ولعل الهيئة العامة للسياحة والآثار تقوم بهذا الدور الذي هو صميم اختصاصها. من صامطة واصلنا رحلتنا إلى محافظة الريث، فمساحتها والتي أعتقد أنها أكبر المحافظات مساحة، فمساحتها تبلغ حوالي 100×60 كيلو متر مربع تتكون في معظمها من جبال شاهقة، ينقص كثير من هذه الجبال الغطاء النباتي الكثيف، تتخللها أودية كثيرة تصب جميعها في النهاية في وادي بيش الشهير، الذي أُقيم عليه مؤخراً واحد من أكبر السدود، وقد رأينا جانباً من بحيرته الارتدادية، تشكل منظراً جميلاً في واد من أخصب أودية منطقة جازان، ولعله أخصب واد في المملكة، وتعتزم وزارة المياه والكهرباء أن تضخ الفائض من مياه سد وادي بيش إلى منطقة عسير. ولهذا السبب غيَّرت الوزارة رأيها في إكمال المرحة الثالثة من مشروع محطة تحلية الشقيق التي تغذي منطقة عسير، ورأي الوزارة ليس بالضرورة على صواب، كون مياه السدود ليست دائماً مضمونة، كونها تتوقف على كمية تساقط الأمطار التي تتفاوت بين وقت إلى آخر، وهذا سبب اعتراض مجلس أهالي منطقة عسير - وأنا أحدهم - على قرار وزير المياه والكهرباء في إلغاء المرحلة الثالثة من توسعة محطة الشقيق التي لا تغذي منطقة عسير فحسب، بل والأجزاء الشمالية من منطقة جازان، مع أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - حفظه الله - قد أمر برصد المبالغ لتوسعة محطة تحلية الشقيق في مرحلتها الثالثة، والأمل معقود على أن يعدل الوزير عن رأيه تحسباً لمستقبل غير مضمون لو قلَّت الأمطار، وهذا ما يحدث دائماً من واقع التجارب المناخية، وإن لم يعدل عن رأيه فإننا نريد مناظرته أمام ولي الأمر، فالمصالح الوطنية الإستراتيجية غير قابلة للاجتهاد أو المساومة. وصلنا إلى مقر محافظة الريث حيث كان في استقبالنا المحافظ عثمان الراجحي، وهو رجل وقور وخلوق من أبناء جزيرة فرسان ومعه مشايخ وأعيان المحافظة، ومكثنا حوالي الساعة في أحاديث ومناقشات واستماع لأحاديث السكان عن محافظتهم، وعن تاريخها، وعن هموم أهلها، خصوصاً في المجالات الصحية والتعليمية والطرق. كما اكتشفت أن المشايخ وبعض من الأهالي يتابعون جيداً ما يكتب في الصحافة، وما يدور من مناقشات ومحاورات وندوات مما يعرضه التلفزيون السعودي، وبعض المحطات الأخرى. وكنت قبل أن أسمع تعليقاتهم على بعض تلك الحوادث والنقاشات أهم بسؤالهم هل يصلكم البث التلفزيوني والإذاعي السعودي، فاطمأن قلبي إلى أن أهلنا في هذه المناطق النائية وذات الطبيعة الصعبة ليسوا في حالة عزلة، لأن وسائل الإعلام إحدى - إن لم تكن أهم - وسائل توصيل الثقافة إلى كل مواطن في منزله. فاجأني الإخوان من أهل الريث بمعرفتهم بي جيداً، ولذا كان سلامهم لي حاراً، وكان لهم عتاب على ما ورد في بعض كتبي ومحاضراتي التاريخية في التاريخ الوطني عند وصف أحداث تاريخية شهدتها هذه الجبال في التاريخ الحديث والمعاصر للمملكة بوصف من قام بتلك الأحداث بالتمرد، دون ذكر أسباب ما كان سبباً لتلك الأحداث بشكل مفصل، حتى لا يوصفوا بالمتمردين، ولكي يتضح أنهم لم يكونوا متمردين، بل كانوا يطالبون بحقوق، ومطالبهم كانت بسيطة، إلا أن من كان يتعامل مع مطالبهم، حينذاك لم يكن متفهماً حسب قولهم، فوصف مطالبهم بالتمرد. اعتذرت منهم بأن قلة المعلومات والروايات الموثقة عن تلك الأحداث كانت سبباً في تبني ذلك المصطلح. وعلى كل فتلك أحداث مضت، وأثبتت المواقف التاريخية أن أبناء هذه الجبال هم من أكثر أبناء هذا الوطن إخلاصاً لوطنهم وقيادتهم بخاصة، وهم في مواجهة التحديات على أهم منطقة حدودية، ولم يعرف عنهم إلا الولاء والإخلاص، بل والشجاعة وقوة الشكيمة، وهم المرابطون على تلك الثغور، ولهم علينا الحق في نقل مطالبهم إلى قيادة لا تنفصل عنهم أبداً. من مجلس المحافظ قمنا برحلة إلى أعلى قمة في الجبل الأسود عبر طريق ترابي ممهد في جبال عالية جداً أكثرها ارتفاعاً هو الجبل الأسود، الذي ترى السحاب يموج من تحتك في قمة هذا الجبل، وفي سفوحه يسكن معظم سكان محافظة الريث، حيث تشاهد المدرجات الزراعية، وبعض المنازل الحديثة تلك، وحينما أقول الحديثة إنما أعني تلك المبنية بالإسمنت والحديد، وإلا فهي في الواقع بيوت محدودة الغرف، ورأينا بقايا البيوت القديمة المبنية بالحجارة، وهي في غالبها لا تزيد عن غرفتين وبعض المنافع. كما شاهدنا منازل مبنية على شكل عشش جبلية، وليست على شكل العشش التهامية ذات الجمال الباهر، كما شاهدنا بعض الكهوف الكبيرة التي كان بعض السكان - وربما ما زال بعضهم - يستخدمونها سكناً لهم. الجميل في الأمر وأكرره دائماً وجود الكهرباء في أعالي تلك الجبال، وأبراج الهاتف حتى إن سكان الكهوف يستنيرون بنور الكهرباء، ما مكَّن سكانها من مشاهدة التلفزيون وسماع الراديو. شكوى الناس هنا تتجلى في ثلاثة مطالب، هي: الإسراع في سفلتة الطريق الذي يشق عنان جبالهم، وكان لهم الفضل في تمهيده على حسابهم في السنوات الماضية. أما التمهيد الحديث فقام به أحد المقاولين إلا أنه سحب معداته مؤخراً دون أن يعرف السكان سبباً لذلك، وقالوا حزناً بعد أن غمرت قلوبنا الفرحة. لأننا لا نعرف متى سيعود المقاول ومعداته بعد شهور بعد سنين الله وحده أعلم وطول هذا الطريق 16 كم. المطلب الثاني: إكمال بناء المدرسة لأبنائهم، وقد تم اعتمادها، ورست على مقاول منذ خمس سنوات لم ينجز منها طوال هذه المدة سوى إقامة ثلاثة أعمدة معلقة في الهواء. المطلب الثالث: بناء مركز صحي يوفر عليهم مشقة العناء لنقل مرضاهم إلى أقرب مركز صحي يبعد عنهم عشرات الكيلو مترات، مع وعورة الطرق البالغة الصعوبة، حتى إن أحد المواطنين قال لنا إن بعض النساء ولدن في الطريق من شدة ارتجاجات السيارات الرباعية الدفع في الطريق الوعر. والغريب في الأمر أنه قد اعتمد لمحافظة الريث كلها مستشفى بأسرة محدودة، أكمل بناؤه منذ أربع سنوات، ولا يزال مغلقاً لم يشغل، وأصبح بحاجة إلى صيانة قبل افتتاحه، والناس يعانون أشد المعاناة، وقد كتب عنه تقرير مطول في جريدة الوطن بتاريخ 18 ربيع الآخر 1432ه. وأنا أقترح أن يُسارع وفوراً إلى إنهاء سفلتة الطريق، وإنهاء بناء المدرسة، وأن يُبنى بجنب المدرسة أو جزء منها المركز الصحي، وكذلك بقية المباني الخدمية، لكي تكون في مكان واحد. كما أقترح أن تبنى هذه المرافق بمواصفات خاصة تتلاءم مع البيئة والمناخ، وطبيعة حياة السكان. هناك شكوى مُرّة من الفقر. فأكثر من 1500 أسرة يعيشون تحت خط الفقر بمسافات، أخبرني بذلك -ولديه التفاصيل - الشيخ مغدي جابر مداوي السلمي. الناس ليسوا بحاجة إلى صدقات يعطيها أهل الخير، والجمعيات الخيرية، الذين يعطون حيناً ويمتنعون أحياناً ويفرضون شروطاً على من تقدم لهم الصدقات أحياناً. إنهم أصحاب حق مشروع في بيت مال المسلمين. إن الفقر في هذه المناطق النائية بحاجة إلى معالجة حقيقية تحفظ للإنسان كرامته، ويتاح من خلالها تعليم أبنائهم، لكي لا يكونوا سلالة متصلة لأسر فقيرة. البعض يقول ولماذا يبقون في هذه المناطق النائية والصعبة، الجواب وإلى أين تريدهم أن يذهبوا. فالبديل في - حالة الانتقال - هو العيش فقيراً على هوامش المدن، فيعاني ثلاث مشاكل، هي وطأة الفقر ولوعة الغربة وفراغ المناطق الحدودية من سكانها. والجبل الأسود هذا يمكن تحويله إلى مقصد سياحي هام، فهو جبل يعانق السحاب ليس به شيء من وعورة الجبال ذات الصخور الركامية الصلدة، ومن أعلى قمته يمكن رؤية كل أنحاء منطقة جازان، بما في ذلك جزيرة فرسان في حالة الليالي الصافية من الغيوم. ويمكن أن يكون به مرصد سياحي توضع به مناظير لرؤية كل المنطقة. وبما أن وادي لجب الذي سيأتي الحديث عنه يقع من الجبل الأسود في الطرف الثاني من الطريق إلى الجهة الشمالية فقد أصبح مقصداً سياحياً يرتاده الآلاف من الزوار، والزائر يريد أن يرى أكثر من مكان سياحي في منطقة واحدة مثل الجبل الأسود، وجبل القهر المعروف بتاريخه، ويجب أن يفرد له حديث خاص. وللأسف أنه لم يكن في برنامج الزيارة. وأقترح أن تبنى مساكن للأهالي في سفوح تلك الجبال بشكل منظم ويُراعى فيها الاحتياجات الضرورة للسكن ولماذا لا نستفيد من تجربة العدو الصهيوني في طريقة بناء المستعمرات في الأراضي المحتلة، مبانٍ صغيرة وجميلة وغير ضارة بالبيئة ولا بالذوق العام ويعمم هذا النموذج على كل المناطق المشابهة لجبال الريث. في وادي لَجّبْ كان وادي لجب هو مقصد الرحلة الرئيس، لأنه أصبح واحداً من أهم المقاصد السياحية في منطقة جازان، وربما يصبح واحداً من أهم المقاصد السياحية على مستوى المملكة، ولكن توقف القافلة في مقر المحافظة كان نزولاً عند رغبة المحافظ، ورجال المحافظة في استقبال ضيوف القافلة، كون أبناء كل محافظة يعتبرون ضيوف القافلة ضيوفاً عليهم، ولا بد من القيام بواجب الضيافة. هذه هي طبيعة الإنسان السعودي مضياف وودود، ومحب للآخرين، وهذه من أهم مقومات نجاح السياحة في أي بلد. ومن مقر المحافظة كانت زيارتنا للجبل الأسود - كما تم توضيحه سابقاً - وأشرت إلى أن تركيبة الجبل الأسود ذا الارتفاع العالي جداً تختلف كلية عن تركيبة الجبال التي يشقها وادي لجب من حيث التركيب الصخري، وهنا تكمن متعة المقارنة بالنسبة للسائح أو الزائر. فوادي لجب (بفتح اللام وتشديد الجيم وتسكين الباء)، وكان نطق اسم الوادي محل خلاف بيني وبين الزميل الدكتور حمزة المزيني، وهو أستاذ اللغويات واللسانيات، ورفيقي مع الزميل الكاتب عبد الله العبد الباقي في سيارة واحدة طوال الرحلة بأن النطق الصحيح لاسم الوادي حسب رأي الدكتور حمزة «لَجَب» بفتح اللام والجيم، وكان هذا الخلاف مستمراً طوال الرحلة إلى هذا الوادي، ولم يحسم الخلاف إلا أبناء الوادي أنفسهم بتأييد رأيي، والناس هم الفيصل فيما يخص أنسابهم ومسميات مواقع بلدانهم، حتى وإن كان للغويين والجغرافيين رأي آخر. أما وصف وادي لجب فقد ورد بشكل مختصر ومعبر في البرنامج التعريفي الذي أعده الإخوة منظمو الرحلة في منطقة جازان، وهو على النحو التالي: وادي لجب، «عبارة عن صدع وانكسار في الجزء الشرقي من جبل القهر «زهوان»، يرجع تاريخه إلى حدوث الانكسار الأفريقي العظيم حينما ظهرت جبال ناهضة ذات صخور شديدة الصلابة، تختلف عما جاورها في التركيب الصخري واللون، ويبلغ طوله 11 كم تقريباً من الشمال إلى الجنوب، يتقابل بعد 3كم، تقريباً، من دخوله بصدع آخر طوله يزيد عن 2 كم، وترتفع حافتا الانكسار بشدة، ويبدأ الطريق ضيقاً، ويستمر ضيقاً قرابة كيلو متر واحد، ثم يبدأ يتسع تدريجياً، إلا أنه لا يزيد في أقصى اتساع له عن 30 متراً، وتجري فيه المياه من جهة الجنوب من مدخله، وتتجه شمالاً وتسير في مسافة 11 كم، حتى تصب في وادي بيش». هذا الوادي وحافتاه - العالية والحادة - اللتان لا يقل ارتفاعهما عن 300 متر ذات صخور حمراء وسوداء صلدة تخرج من بينها ينابيع تشكل شلالات بها أشجار دانية تشكل ما يشبه المزهريات المعلقة، من يرى تكوين حواف هذا الوادي الصخرية العالية يزداد إيماناً بقدرة الخالق - عز وجل - القائل: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} (19) سورة الغاشية، وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (27) سورة فاطر. لم يكتشف هذا الوادي السحيق وغرابة تكوينه من قبل غير أهله إلا مؤخراً، أي منذ عشرين سنة ونيف بوساطة بعض الأجانب الأوروبيين، كما ذكر لي ذلك أحد أبناء المنطقة، ثم أصبح بعد ذلك مقصداً للكثيرين من الزوار من المملكة وخارجها يشهد على ذلك العبث الذي يقوم به بعض الزوار من خلال كتابة ذكرياتهم، وذكر أسمائهم، وأسماء المدن والمناطق القادمين منها، وهذه ظاهرة لم أر لها مثيلاً في كثير من المناطق السياحية خارج المملكة، فهذه الظاهرة عمل غير حضاري، وتشويه للطبيعة والمعالم السياحية، وينبغي لنا التصدي لهذه الظواهر، ونمنعها كي نحمي مناطقنا السياحية من هذا العبث. زار هذا الوادي الغريب العجيب - بعد اكتشافه من قبل الأوربيين - كثيرون من الكُتّاب والروائيين خصوصاً من منطقة عسير مثل الروائي أحمد أبو دهمان صاحب رواية الحزام، والكاتب الإعلامي المتميز سليمان الهتلان الذي خصه بمقالة مطولة في جريدة الوطن كانت سبباً في إقبال كثير من الزوار، خصوصاً المهتمين بالآثار والتاريخ، وحب الطبيعة البكر غير المشوهة. قبل حوالي ثلاث سنوات زرت وادي لجب برفقة الزميل الدكتور سعيد مفرح القحطاني أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الملك خالد، والزميل المحرر بجريدة الوطن محمد عطيف، وكان الأخ محمد صاحب فكرة زيارة هذا الوادي لكثرة ما سمع عن رغبتي في زيارته، ولكونه قد زاره عدة مرات بحكم عمله الصحفي. ونزلنا لزيارة لجب عن طريق عقبة الجوة التي نعبر بعد تجاوزها إلى بطون أودية تهامة قحطان إلى ما كان يُعرف بجلة الموت، الذي غيّر الأمير خالد الفيصل أمير عسير السابق مسماه إلى وادي الحياة، وكان الطريق صعباً وغير مسفلت ولا ممهداً، تخترقه من الأودية التي كانت حينذاك في حالة جريان، وتعترضه كثير من الجبال الصعبة. بَيْد أنّ الأخ محمد قد أخذ لكل شيء عدته في السيارة ذات الدفع الرباعي التي كانت في حالة جيدة، ومؤن الفطور والغداء أعدتها زوجته الفاضلة أم يحيى، وهي ماهرة في طبخ الأكلات الشعبية، خصوصاً العريكة ومستلزماتها، كون رحلة شاقة كهذه تحتاج إلى غذاء كهذا. أما وجبة الغداء فكانت معدة بشكل رائع في حافظات حافظت على سخونته ومذاقه. بمجرد الشوق في الوصول إلى الوادي المعجزة والغريب في تكوينه نسينا مشاق الطريق، وعند الوصول إلى مدخل الوادي اكتشفنا حقاً أن المكان يستحق التعب والمعاناة. كانت المياه جارية، والأشجار من بين التكوينات الصخرية دانية، وخرير المياه من بعض الشلالات الصخرية المنسابة من بين الشقوق الصخرية تشنف الآذان، وشقشقة الطيور مع تعدد أشكالها وألوانها تجعلك تعيش في ذهول يشبه الحلم، وكأنك تشاهد فيلماً أنتجه مخرج بارع من كبار مخرجي أفلام هوليوود، ولكن شتان بين عمل بشري ومعجزة خلقها خالق الكون سبحانه وحده. إلى هنا أكتفي بوصف انطباعي بشكل مختصر عن وادي لجب في زيارتي الأولى له قبل حوالي ثلاث سنوات، وأعود إلى رحلة القافلة السياحية في الأسبوع قبل الماضي. أوقفنا سياراتنا بعد قليل من مدخل الوادي، ومشينا على الأقدام نتجاوز بين حين وآخر ينابيع المياه الجارية الصافية النقية، حتى وصلنا إلى مكان أُعد للغداء، حيث كان محافظ الريث، ومشايخ وأعيان قبائل الريث في استقبالنا في مكان مهيأ بشكل جميل، أخذ كل منا مكانه في الجلوس، وبدأت حلقة نقاش رائعة في مكان مذهل، نقاش لم تنقصه الصراحة والشفافية والأدب الراقي في الحوار والنقاش. وكان كما ذكرت سابقاً - أهالي هذه المناطق يتحدثون معنا عن همومهم، وكأن رحلتنا ذات طابع رسمي لمعرفة وتقصي أحوال الناس ومعرفة همومهم المتعلقة بحياتهم المعيشية وأحوال الطرق والصحة والتعليم، وهذه القضايا الثلاث كانت أهم القضايا المشتركة التي يتحدث عنها سكان جبال الريث والقهر وفيفا. كنا نستمع إليهم أكثر مما كنا نتحدث، ليس لأننا عديمو الرغبة أو الشهوة في الكلام. فكثير منا - وأنا أحدهم - وظيفتنا الكلام. فالأغلبية من الصحفيين رفاق الرحلة صنعة وطبيعة عملهم هي طرح الأسئلة وجر الآخرين إلى الكلام. أما أنا فربما أصنف على السياسيين الذين يتكلمون كثيراً، ويعطون الوعود بدون حساب، ولكن الأفعال قليلة، وكل سياسي أو صاحب قرار، أو في مركز تنفيذي مهم - وأنا لست في وضع أي منهم الآن - يتقن فن التهرب من المسؤولية، ويلقي باللوم على غيره. كسر أحد المشايخ الحضور حدة النقاش أو حدة الصمت، أو رغبة في تغيير مسار الحديث بطرح أسئلة لا تخلو من الصراحة، خصوصاً أننا كنا في ما يشبه برلمان في الهواء الطلق ليست له قبة، ولكن له حافتين شاهقتين تكادان أن تلتقيا في العلو البعيد لحافتي الوادي. بدأ حديثه بتوجيه سؤال مباشر لي قبل أن يطرح بقية أسئلته المتعلقة بالشأن العام، وبخاصة شأن هذه المناطق، والشيخ في مطلع الستين من عمره، أو قريب من سني أنيق في لباسه، فصيح في حديثه، عصري في مظهره. وكان سؤاله المباشر الذي بدأ به حديثه أن طلب مني أن أكف عن المطالبة بحق المرأة في قيادة السيارة وقالها بشكل مازحاً وهو يبتسم، لا أدري ماذا تنم عنه تلك الابتسامة ولكن قال أطلبك طلبة قبلية وأنت ابن قبيلة أن تكف عن هذا الموضوع، لأننا لا نريد أن نرى نساءنا تقود السيارة، لأن مسؤولية قضاء حاجاتها من سوق أو مثله هذه وظيفتنا نحن الرجال. عقب هذه البداية انتابت الحضور حالة من الضحك وهم يلتفتون إليَّ، حتى في هذا الوادي السحيق، وفي هذه المنطقة النائية تلاحقك الأسئلة حول هذا الموضوع. ضحكت معهم وقلت هذا دليل على حيوية الموضوع. استمر شيخنا الفاضل وهو - كما عرفت - شيخ مشايخ جبال القهر الذي كنت أمني نفسي منذ سنوات طويلة بزيارتها لرؤيتها على الطبيعة والحديث إلى أهلها الأشاوس الذين أشرت سابقاً إلى أن في خاطرهم عليّ شيئاً من عدم الرضا حين وصفت ثوراتهم في عام 1361ه و1375م بأنها حركات تمرد. ثم استمر الشيخ في طرح أسئلته الأخرى، ولكنها ذهبت أدراج رياح في سؤاله الأول الذي طغى على الجو. دائماً رفاق الرحلة يمنحونني حق الرد، وذلك بالإصرار منهم على ما يطرحه الإخوة الأهل في تلك المناطق من أسئلة أو إبداء آراء. ولأهلنا في الجنوب عادة انتظار الرد بشكل بروتوكولي ممن يتحدثون إليه أو معه، وهذه الثقة أعتز بها، ولكن يبدو أن هذه الثقة كانت تقديراً للسن، فأنا أكبر رفاق الرحلة سناً عدا واحد أو اثنين منهما الدكتور حمزة المزيني. كما أنهم منحوني هذه الثقة في كتابة كلمة في سجلات الزيارة لمن يطلب منا ذلك نيابة عن رفاق القافلة، وما كان عليهم إلا التوقيع، وكان بعضهم يعلن مما نعته عن التوقيع ممازحاً بأننا نوقع على كلام لم نقرأه، ولم نتفق عليه، ولكن كان الكل يوقّع أخيراً. إنها حقاً كانت رحلة سياحية وأدب واكتشاف ومتعة. كانت لنا أحاديث ودية وأخوية مع من التقينا بهم من أهلنا في منطقة جازان، واستماع إلى كل ما يطرحون من مطالب، وأوضحنا لهم أن دورنا يقتصر على نقل ما حمّلونا إياه إلى المسؤولين وأولهم أمير منطقة جازان سمو الأمير محمد بن ناصر بن عبد العزيز، الذي كان لنا معه موعد في ذلك المساء، أو توصيل أصواتهم من خلال ما يكتبه الإخوة كتّاب الأعمدة التي يقرؤها كل مسئول، أو من خلال ما سننقله مباشرة إلى كل مسئول تسنح لنا الظروف بمقابلته. لم أرغب في أن أفوّت على شيخ مشايخ القهر سماع جوابي على سؤاله الخاص بعدم المطالبة بحق المرأة في قيادة السيارة، فقد كان جوابي هو تحيتي له على استعداده الدائم للقيام بخدمة زوجته بنفسه في كل وقت تريد منه توصيلها إلى السوق، أو المدينة، أو المستوصف الصحي، أو إلى مدرستها إذا كانت طالبة، أو مدرّسة، لأن من يقوم بهذا العبء الآن قليل. وقلت له ربما طلبات نسائكم في هذه المناطق محدودة، مع العلم أنني أعرف أن بعض النساء في هذه المنطقة - وقد رأينا بعضهن - يقدن سيارتهن - لكن الوضع في المدن الكبيرة يختلف كثيراً. فلدينا كثير من الطبيبات، وأستاذات الجامعة، أو المدرسات والأرامل، وزوجات الضباط والجنود اللوائي يستدعي الواجب تحرك أزواجهن إلى جبهات القتال مثل ما حدث في مواجهة الحوثيين مؤخراً في منطقتكم هذه، وسألته هل ترى أن من منطق الشهامة والأصالة أن تترك النساء تحت رحمة السائقين الأجانب، بينما هن قادرات على القيام بمسؤولياتهن ومسؤوليات أولادهن بأنفسهن، فتحركت في الرجل أصالة العروبة، وقال لا والله لن أُوكل أمر قريباتي إلى أجنبي وهي قادرة على أن تقوم بشئونها وشؤون أولادها، قلت له إذاً اتفقنا. استمتعنا بساعات جميلة في مكان جميل، وبصحبة أهل رائعين أكرمونا بوجبة غداء شهية، أضفى عليها جو المكان متعة إضافية. غادرنا وادي لجب في حوالي الساعة الرابعة عصراً، وصلنا إلى مكان إقامتنا في مدينة جازان بعد الساعة السادسة بقليل، حيث كان لنا بعد صلاة العشاء مباشرة موعد مع سمو أمير المنطقة.