وقفت تلك المرأة بجثتها الضخمة، متجولة في الممرات المظلمة المشبعة بالرائحة الكريهة الرطبة، كانت تمشي بلا مبالاة وتمهل متعجرف وكأن كل ما تخطو عليه قدميها ملك لها، ومما زاد ثقتها بنفسها اختباء كل من بطريقها عن زيها الفاقع الذي ارتدوا مثله وهم مختبئون خائفون من أن تصل إليهم نبرتها المرعبة، أو يديها الضخمتين التي دائما ما تتلمس بهما تلك الندوب المستقرة على وجهها ورقبتها. وقفت في ذلك الظلام الثقيل بوقاحة واستهزاء، واستبدادها قد ألجم تلك العيون المتوترة من كل جانب. التفتت إلى الجانب الأيسر لترمق كل من هنالك باستحقار، وحينما حان دور الجانب الأيمن طار قلم أزرق صغير، ليهبط عند قدميها من إحدى تلك العيون المختبئة. سمعت المرأة صوتا مضطربا أحاط بعبارات التأسف الذليلة فردت كعادته...، سحقت القلم بقدمها لتركله على صاحبته وهي تقول بنبرتها القاسية: «تباً لك ! حمقاء سافلة كما أنت». وبعد أن انتهت من كلماتها البذيئة، فتحت الباب الصدئ ليصدر صريراً مزعجاً اندفعت منه أشعة الشمس لتقضي على الظلام، فبانت تلك الوجوه المختبئة ولم تتغير ملامحها المتوترة وسرعان ما أغلقت تلك المرأة الوحشية الباب لتنعم ببقعة ضئيلة من الحياة، شمس، وهواء، وسماء، هذا ما كانت تتمتع به والجدران الضخمة تصدها بعد خطوات قليلة من كل جانب..، لم تمضِ إلا وهلة حتى كشفت تلك الملامح الوحشية عن ملامح عذبة وهي تتذكر طفولتها، كانت تركض وتسبح وتغني وتطير وترقص، وقد لازمها صديقها أشعث الشعر. بدأت الذكريات تنساب كشلال غسل وقاحتها وقسوتها بماء المحبة والجمال، ولم تستطع أن تمنع نفسها من استرجاع تلك الذكرى التي عاشت وما زالت تعيش على صدق جمالها، تذكرت وكأنها تعيش الآن في تلك اللحظة فوق الجبل العظيم، ونور الحياة المتفائل بجانب صديقها أشعث الشعر، الذي نطق ورائحة أسنانه المتسوسة تفوح: «كم تتوقعين يلزمنا من كعكة برتقال حتى نصل إلى الشمس ؟» التفت إليها منتظراً إجابتها، وبدون أن تتحدث رأى ذلك الجرح الدامي على خدها الصغير، فقرأ عينيها ليردف ويقول: «لا تحزني ، إن أباك حمار، وغبي، كنت سأقتله عندما رأيته يضربك بالسوط، ولكنني خفت أن يموت، عندها لن يكون لديك أم ولا حتى أب، فيأخذونك من هنا بعيداً». وبعد أن أتم جملته التفت إليها مجددا منتظراً إجابة أو استجابة، فلم يحصل علي أي منهما، فرمقها بنظرة مبتسمة، وقال: «كنت في حالتك يوماً ما، وكنت أظن أن الحياة ظالمة وبائسة وموجعة». ألقى نظرة على الشمس ثم رجع بنظراته ليوجهها عليها بعد أن استقى ضوء الشمس ليستقر في عينيه العسليتين وأكمل مبتسما: «ولكني اكتشفت أنها ليست كذلك، أعدك بأن الحياة مذهلة ورائعة، كحلوى أمي نورة في الشتاء، لذا لا تحزني». وما قطع تذكرها هو صوت صرير الباب الذي فتح ليظهر خلفه امرأة بلباس رسمي، مسكت القيود التي عكست ضوء الشمس لتقيد يدي تلك المرأة. وجدان المطوع - الثانوية (50)