وصلنا أمس مقال للزميل عثمان العمير ناشر ومالك صحيفة إيلاف الإلكترونية (الواسعة الانتشار) كتبه عبر موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) والذي انضم له مؤخراً يتحدث فيه عن فرضية خيار الاختيار بين العمل في بلاط الصحافة أو الموسيقى، وهذا السؤال الافتراضي طرحه عليه صديقه الزميل سلطان القحطاني، وننشر اليوم أجزاء كبيرة من مقال العمير الذي بدأه بالقول: - يسألني الزميل الأثير المثير، سلطان القحطاني، لو خُيرت بين أن أكون موسيقياً، أو صحافياً، فما الذي سوف أختار؟ سؤال وجيه كوجاهة مستقبل صاحبه. الإجابة: بالطبع لا أحلم أن أكون موسيقياً. الموسيقيون يخلقون توارثاً تحت ظلال الأشجار، وبين خرير المياه، وفوق هامات، ومرتفعات الجبال، وجيرة الشتاء. كل ما أحلم به هو أن أكون متابعاً للموسيقى. المحرر: تحدث العمير الذي بدأ حياته المهنية صحافياً فنيا في صحيفة (الجزيرة) قبل أكثر من ثلاثين عاماً مستعرضاً قدرته على تكييف اللغة بين أصابعه ليحولها إما إلى قطعة موسيقية أو مقال أو حتى كمقطوعة أدبية إذا أردنا الخلط بين الاثنين فيقول: - لنفترض أنك فعلاً حزمت حقائب السفر إلى ألمانيا، «لايبزغ»، لتصيخ السمع إلى باخ Bach سيكون باخ سعيداً بوجودك، وستغادر هذا الموسيقي الوحيد الذي لم يغادر منطقته، حتى مات، بينما موسيقاه تسافر معنا حتى تنقلها مركبة فضاء أمريكية، لتقول للعالم، الذي لا نعرفه: ها نحن سكان الأرض أحياء في أرضنا نرزق. لاحظ سيدي أنهم لم يحملوا أي كتاب معهم، أسود، أو أزرق، أو أبيض، أو رمادي، أو أحمر، أو أخضر. أمر مثيرٌ للذهول أنهم لم يحملوا الكتاب الأخضر، بل «سي دي» صغير، قذفوه في أحشاء الكون، فغاص عميقاً، عميقاً، وعميقاً حتى حين. ما رأيك يا صديقي أن تأخذ حصاناً، لأنك لا تستطيع أن تركب جملاً بالطبع. لحظتها أنت في حاجة إلى حصان، ومن ثم مركب صغير لتحط عربتك في bond st في لندن، وتلتقي وجهاً لوجه مع «جورج هاندل» George F Handel. آه كم هو جميل ذلك العملاق! ولأننا في منتهي السرعة فما زلنا نهيم في لندن، ونتنفسها، ولا حرج أن تسمع في رحلة نهرية، تلك السمفونية النافذة للأذن، مهما اتسعت أو ضاقت، water Music. المحرر: يواصل هذا الرجل (الأعزب) رحلته في محاولة أخرى لبناء سياق مشترك بين ماضيه وحاضره، وحين قرأت ما بين يدي الآن تذكرت بيتين للأفوه الأودي قال في الأول: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وبيتا آخر يقول فيه: إنما نعمة قوم متعة وحياة القوم ثوب مستعار ولعل البيتين قفزا إلى ذهني دونما مناسبة، لكنني في قرارة نفسي أجدها (متسقة) مع ما بين يدي. - لنخرج سريعاً من لندن. قبل أن يموت «هاندل»، كان إشعاعاً يختلس إذن، وأحاسيس البشرية، لتسطع أنواره في فسيح الآفاق، بينما كان لحظتها «موزارت» يولد في النمسا. لاشك أنه الأغلى، والأحلى، والأنفس، والأجمل، والألذ. لم يطل مقامه. استجاب لنصيحة أبي العلاء المعري، فمر على الدنيا كما الهواء حفيفاً. كن معه حتى يمر، فلقد مر، كما فعل بعده شوبارت، ماندلسون، شوبان... كلهم لم يتحدَّوا حاجز الأربعين! فعليك يا فتى أن تقفز هذا الحاجز، وبعدها لا تخف، ولا تحزن. المحرر: ومع هذا الانسياق في النص يتذكر العمير فجأة أيهما يتمنى أن يكون، فيقول: - بالطبع سأغادر شيبي «موجع القلب باكياً»، كما تخيل عمك، أبو محسّد، المتنبي. سأتمنى أن أكون موسيقياً. ليس لأن الموسيقى نبل، وتفوق، وتهذيب، ورقي بالعقل، والقلب، والروح معاً. ليس لأنها الإنتاج الإنساني الفريد، مثله مثل الفن، والرقص، والمسرح، الذي يتجاوز شواطئ، وبحار، الإنسان، وفضاءاته، وعوالمه، الصغيرة، إلى آماد أرحب، وأعلى، وأغلى. ليس لأنها لا تعترف بالقيود، والحدود، والسدود، التي تحيط بمنسم عقل الإنسان. وما أنكى يا صديقي، بل وما أقسى، إنني كلما قرأت، ونقبت في تاريخ الموسيقيين الكلاسيكيين منذ أواخر القرن السابع عشر حتى الآن: من برس مع أستاذه، أو خطابات باخ إلى زميله هاندل، أو المناجاة الصوفية بين موزارت، وأستاذه هايدن، أو حتى التقدير المفتعل من بيتهوفن لأستاذه - رغما عنه - هايدن، أو الحب بين برامز، وكلارا، وزوجها شومان، وجدت العجب العجاب، أما الوفاء فحدث ولا حرج، والجوانب الخيرة، والإنسانية فأمرها طويل. دعني أذكرك بما فعله الفتى الجميل، ماندلسون، لباخ بعد أن كاد يُنسى. أو الأمير المجري الأجمل فرانز ليستمر لبيتهوفن، أو الرقي بين التشيكي دوفجاك، وكل من مالر، وبرامز، والقائمة تبدأ، ولا تنتهي. لا أريد أن أطيل عليك، أو أن أتحدث لك عن أفعال الخير لهاندل، بل اصمت عندما ترى كيف يتعامل الصحافي المتوسطي مع أستاذه، أو زميله، أو صديقه، أو منافسه.