إن ما تموج به الدول العربية والإسلامية في الآونة الأخيرة من فتنة عمياء تجعل كثيراً من الناس حيارى، والسبب وراء ذلك كله بعد الناس عن المنهج الشرعي، ومحاولة استيراد أساليب خارجة عن إطار ديننا الحنيف. إننا بحاجة ماسة للوضوح التام مع النفس، وضبط كل تصرفاتنا شرعياً دون الاستسلام لجماهير الناس - الذي يتردد على مسامعنا هذه الأيام كثيراً- بل يجب أن نغلّب صوت العلم، صوت الحكمة، صوت العقل، الذي يصدر عن المنهج الشرعي الصحيح، المنهج الذي يوازن بين المصالح والمفاسد، لا كما يقوله بعض المفتونين ممن انزلقوا في هذا المزلق الخطير من أن هذه المظاهرات سلمية لا عنف فيها، مع أنها لا تلبث أن تنقلب الأحداث فيها إلى التدمير والخراب الذي لا يعلم ما تؤول إليه بعد بدايته إلا الله. إن من أعظم الجهل بشرع الله أن تسوّغ المظاهرات بحجة النصيحة للولاة علناً، مع العلم أن ديننا أوجب النصح على كل إنسان، كل على طاقته، وفق المنهج الشرعي. ليس هناك عاقل - فضلاً عن طالب علم أو عالم- يرى أن المنهج الشرعي في النصيحة لعامة الناس في العلن، فكيف تقدم مع ولاة الأمر في التجمع والتجمهر، وتعطيل مصالح الناس، لمجرد تقليد الغرب بمناهج وآليات، ليست من وجوه النصيحة، التي أمر بها الشارع الحكيم في النصيحة لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وليس من مقتضى النصيحة للأئمة المسلمين وعامتهم الذي بدأ يموج فيه الناس بمظاهرات ظاهرها الإصلاح والمطالبة بحقوق، وباطنها الإفساد والخروج على الأئمة، وقد وقع البعض في هذا المزلق الخطير - نسأل الله لنا ولهم الهداية لما اختلف فيه من الحق بإذنه فهو الهادي إلى الصراط المستقيم- وحاول أن يبرر لها وأن يجعلها من منهج النصيحة الشرعية للأئمة المسلمين، ونسوا - هداهم الله - أن النصح الشرعي لا يحتمل أن يكون في طياته مفاسد أعظم وأكبر من المفاسد والمشاكل الموجودة. والحكم في الأمور بمآلاتها، فإذا آل الأمر إلى فساد عظيم، وانتشار للفوضى، وفقدان الأمن، وخروج على نظام الدولة المستقرة - وهذا هو ما تؤول إليه هذه المظاهرات- فإنه يدل دلالة واضحة على فساد هذا المنهج، وهذه الوسيلة، لأن هذه الوسيلة خارجة عن المنهج الشرعي. والمنهج الشرعي يجب أن يكون هو المرجع الحاكم لعلاقة الناس مع بعضهم، وعلاقتهم مع حكامهم، فقد ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة التي لا شك فيها، التأكيد على التزام السمع والطاعة للولاة، وإن جاروا أو ظلموا، وحق السمع والطاعة حق شرعي من حقوقهم التي كفلها الدين الحنيف لهم، ومن يخالف هذا الأمر فهو مخالف للأمر الشرعي، ولا يعني هذا عدم النصيحة لولاة الأمر، لكن بالطريقة الشرعية التي بيّنها الإسلام لنا، ومناصحة الولاة واجب شرعي من واجبات الرعية الذين وهبهم الله العلم والفقه والحكمة ومن ذلك. ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم -رحمهما الله- أن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما- قال: إنه قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه. إن المقارن بين مفاسد المظاهرات ومصالحها ليجد - واضحاً-كثيراً من المفاسد التي لا يمكن أن ترد، أو حتى تخفف، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: 1- أن المظاهرات سبب للفوضى وحدوث الهرج والمرج، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق» فينتج عن ذلك اختلال الأمن، وتضييع مصالح الناس، ويسهل دخول المفسدين ومَن له غرض فاسد، لتوجيه المظاهرات وتهييج العوام ضد ولاة الأمر، ويتكلم من ليس أهلاً للكلام في أمور عظيمة تهم البلاد والعباد. 2- ومن أعظم المفاسد للمظاهرات عدم التحكم فيها بعد انطلاقها، لأن احتكاك المتظاهرين بما يعارض مطالبهم يؤدي إلى فتنة لا تحمد عقباها، والقول بإباحة المظاهرات السلمية يرده العقل السليم لأننا لا نستطيع التحكم فيما تؤول إليه. 3- ومن مفاسدها العظيمة إيغار صدور العامة على ولي الأمر، وحثهم على الخروج عليه، وهذا عصيان للأمر الشرعي الذي أمرنا بالسمع والطاعة لهم، واجتماع الكلمة عليهم. قال صلى الله عليه وسلم «اسمعوا وأطيعوا، إنما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم» رواه مسلم. 4- ومن مفاسدها العظيمة أيضاً أن هذه المظاهرات من أسباب اختلال الأمن، لأنها تؤدي إلى الفرقة والبعد عن وحدة الكلمة، التي أمرنا الله بها بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}. 5- ومن مفاسدها أيضاً ما تسببه من أضرار بالغة في اقتصاد البلاد، وهو ما يريده أعداء الأمة بتفريق صفها، وإضعاف شوكتها. وأختم حديثي بقول الله عز وجل {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال الإمام البغوي - رحمه الله- في تفسيره: يستنبطونه أي يستخرجونه: وهم العلماء، أي علموا ما ينبغي أن يكتم وما ينبغي أن يفشى، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في المنافقين إلا أن الاستدلال بها في إرجاع الأمور لأولي الأمر واضح بيّن، ولا شيء أولى وأهم من اجتماع كلمة المسلمين على ولي الأمر، وعدم منازعته حقه، واستتباب أمن الناس. أسأل الله جلَّ وعلا أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه وسوء، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يجعل عاقبة أمرنا خيراً، إنه ولي ذلك وهو المستعان، وعليه التكلان. د. عبدالله بن محمد أبا الخيل - عميد أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية