سماء رمادية تعكس المواجع، سحاب بلون الفحم ينذر بالهطول..، كل شيء اكتسى بالزرقة، الطريق والأوجه والشجر. تجلس بجانب نافذتها لتترقب. شخصا ما يبيع الموت بالأسفل..! أشباح تركض لاهثة لتشتري.. تنظر لأثاث غرفتها بفتور.. تعرف أن هناك حياة خلف هذا الخشب. تعود لسريرها وتستلقي.. عيناها استحالتها لعيني دمية تنظر للسقف. لا ترمش ولا تشع.. تشعر بلون الشمس يسدل دون اهتمام إلى رقبتها.. تتولى عنايته الريح.. ملابس رثة بلون قد كان أبيض.. تهتز مع الساعة.. تتذكر ما حدث.. دماء تغطي الطريق، ناس بغير هدى يجرون، صوت صافرات الإسعاف ينذر بالشؤم لا بالمساعدة، همسات من بعيد.. لقد توفوا جميعاً.. لم ينج سواها.. تمسك بكتف أمها وتهزه بحركة آلية: - أمي يظنون أنك متى، أمي فقط لو تفتحي عينيك لأطمئن. أصوات من جليد.. «مسكينة كيف تبقى وحدها»؟ تستمر في هز أمها كي تخيب ظنونهم، تصبح الثواني أبطأ، ورجال يحملون مفارشا بيضاء، يلفون أناساً برفق ليقدموهم هدية للسماء. لم تفهم ما يحدث.. يبدو أن هؤلاء قد انتهوا بشكل ما من رحلتهم بالأسفل. يد تمسك بها وتبعدها لجانب الطريق.. بدأوا بلف أمها أمام عينيها.. تحتضن ركبتيها بيديها وتلصقها لصدرها... تتحرك جيئة وذهاباً وتقلب عينيها في الناس بسرعة كأنها تحفظ وجوههم للانتقام لاحقاً. يتحرك فمها.. ترتجف كثيراً وتنظر للسماء، تكاد تصرخ بالقدر. لكنها آثرت الصمت ولم تتحدث منذ سنتين. يؤلمها واقعها كثيراً.. دائماً تتساءل لماذا نجت وحدها ؟ لتعيش في حضن الآلام.. وذات يوم من الأيام نهاية للحظة، بداية لدنيا مع من تحب، التحفت شالها لتتقي برد الطريق، نزلت من الدرج كالموعود للبائع الذي خافته كل يوم... كانت كل درجة تنزلها تعتبر صعوداً لما تريد.. تتمزق قدماها من عتبات الدرج القديم, لا تبالي إلا الوصول، خرجت للعالم مرة أخرى، لفحها البرد وخافت من أن تتوه.. لكن وجه أمها مغمضة العينين ما زال في ذهنها، تقدمت للأمام ووصلت عند بائع الموت.. جاهدة أن تتحدث.. تشعر أن العالم أصغر من أن يسمع رغباتها. صوتها خاف الحديث معها. استجمعت قواها.. وأغمضت عينيها بكل استعداد واستجدت صوتها.. خرج كالفحيح: - أريد موتاً..!! نظر لها الشيخ المسن بهدوء، رفع سبابته لأذنه وعيناه غارقتان في التفكير، قال لها: - لم أستطع أن أسمعك جيداً، ماذا أردت ؟ كان سؤاله كمن يشح على الغريق بقطعة فلين! نظرت بعينين مليئتين بالدموع.. عتبت على صوتها كثيراً.. لمَ لم ينقذها حين احتاجته؟ شدت على أصابعها وبدأت بالارتجاف.. تفتح فمها وتحركه.. تستغيث الصمت أن يدعها لوهلة.. تذكر ألمها.. وسهرها كل ليلة.. تزداد رغبتها بالموت.. قتلها الذنب سابقاً لكنها تحتاج تذكرة للعبور. حاولت جاهدة واقتربت منه خرج صوت هامس: - أعطني موتاً..، بعني موتاً..!! نظر لها الشيخ العجوز بلطف.. مسح جبينه المتصبب بالعرق.. أغمض عينيه وابتسم.. : - لكننا لا نبيع سواء الزهور يا ابنتي...!