قالوا: إنّ الناس يتشكلون تبعا لتضاريس أرضهم، وكنت قد تأكدت من ذلك حينما وقفت على حافة الجبل، ورأيت الأرض تتشكل برائحة الغروب، والسماء غائمة . ورغم ذلك، تبصر القمر في السماء شبه مكتمل لعله في منتصف الشهر، وفي الصباح يخرج الأهالي إلى الحقول. هي لم تعد لهم وحدهم؛ إذْ دخل فيها " العمال" القادمون من شتى البقاع، فأصبحت ترى " الجلابية" وتسمع الجيم العربية جيما مصرية. وترى الهنود والبنقالة، يملؤون السهل والجبل. قالت إحداهن: لا أستطيع الذهاب إلى الحقل دائما، وأشاحت أخرى بوجهها ناحية الجبل الجنوبي؛ فقد كانت تنظر إلى المجهول، والجبل دائما ملاذٌ لكل ما هو سري وأسطوري. وفي المساء نامت قريتنا على ضوء قمر يفضح الظلام كعادته في منتصف الشهر، نام الجميع إلاّ "عائشة" كانت تحدق في القمر لعله يأتي بخبرٍ ما؛ لكنه كعادته يستمر في اللمعان لا يأبه بما يدور في خلد عائشة. ولو كان القمر يألف بما تحته؛ لكان عرف أنّ قمر السماء يشابهه قمر في الأرض، وبالتحديد في قريتنا؛ فحنّ عليه. وفي منزل آخر، وتحت سقف ما، يعدُّ "أحدهم" نقوده في "نهم" شديد، وعندما رأي بصيصا من الضوء عبر سقف الغرفة؛ تتبع مصدر الضوء، وأغلقه إلى الأبد، قال بخبث: من يدري ربما تنظر من هذه الكوة عين سارق، ولم ينم ليلته تلك مسرورا. وفي ظاهر القرية كان "مطر" يهذي وقد نصّب نفسه زعيما " للمجانين" .والترعة التي تخترق القرية. كان هذا قبل عقود خلون؛ أما الآن فلا ترعة تشق القرية، ولم أعد استمع لنقيق الضفادع، فلقد ماتت بفعل المبيدات السامة التي جُلبت بكميات كبيرة لقتل كل ما هو زاحف هنا، والقمر غاب بفعل البيوت الاسمنتية، وعائشة لم تعد تحدّق في القمر، إنها تحدّق في التلفزيون، وتطوي العالم بضغطة زر، بيديها الواهنتين، واستبدلت ضوء القمر الفضي؛ بأضواء خافتة تضيء وتنطفئ وهي وصويحباتها يستمتعن بالرقص والفرجة والموسيقى. ومطر، هجر هو الآخر القرية إلى مكان ما؛ و"أحدهم" أصبح يعامل زبائنه بالشيكات والحوالات، وبالمزيد من العمولة والفوائد. كن صوت الديك الوحيد في القرية بكوخ العامل المصري، ينذر بوداع الريف إلى الأبد.