حوار مع المفكّر الإسلامي الدكتور غازي التوبة - موقع البصائر الدكتور غازي التوبة كاتب ومفكر إسلامي متميّز، يكتب بانتظام في عدد من الصحف والمجلات الإسلامية، ونشر عدة كتب في الفكر والسياسة وفقه الدعوة من أبرزها: الأمة الإسلامية بين القرآن والتاريخ، الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم، النكسة في بعدها الحضاري، في مجال العقيدة: نقد وعرض، جذور أزمة المسلم المعاصر، الجماعة في الإسلام: المشروعية والإطار، أبو الأعلى المودودي: فكره ومنهجه في التغيير، القضية الفلسطينية: الواقع والآفاق، النفس المسلمة: صور من بنائها وأحوالها...الخ. وفي هذا الحوار الهادئ، يحلّل الدكتور غازي التوبة مجموعة قضايا هامة منها: أزمة الإنسان المسلم المعاصر، وتجربة الحركة الإصلاحية الحديثة، وفلسفة التغيير، ومستقبل المشروع الحضاري الإسلامي في ظل تحديات العولمة. حاوره الدكتور مولود عويمر أشرت في مقالك "أزمة المسلم المعاصر النفسية: أبعاد وحقائق" إلى قلّة الدراسات التي تناولت الجانب النفسي في معالجة مسألة أزمة المسلم المعاصر، فمعظم الباحثين ركّزوا بشكل خاص وملفت على الجانب العقلي. فكيف تحدّد إذاً موقع "الخلل" عند العديد من المفكّرين المعاصرين خاصة وأنّ الآية القرآنية صريحة: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)؟ اهتممت منذ فترة بعيدة بالجانب النفسي (القلبي) من الكيان الإنساني، ووجدت اهتماماً من الدين بهذا الجانب. وقد تفتّحت عندي جوانب جديدة عندما درست العقيدة الإسلامية بشكل عام والعقيدة الأشعرية بشكل خاص، وقد لاحظت شدّة الفرق في الشحن النفسي والمعنوي للمسلم في الطرح العقائدي بين كل من القرآن الكريم والسنّة المشرّفة من جهة والعقيدة الأشعرية من جهة ثانية، وغنى الأول وفقر الثاني، وكذلك لاحظت فرقاً -أيضاً- في الشحن النفسي والمعنوي للمسلم في الفقه بين صيغتين: السنّة المشرّفة والفقه المدوّن عند المذاهب، وقد أوضحتُ جانباً من ذلك في المقال الذي أشرتَ إليه، لكنّني فصّلت ذلك في كتابين هما: "جذور أزمة المسلم المعاصر: الجانب النفسي"، و"في مجال العقيدة: نقد وعرض". أمّا بالنسبة لتحديد موقع "الخلل" وضعف الاهتمام بهذا الجانب عند الكتّاب المعاصرين والتركيز على الجانب العقلي، فيعود إلى التأثّر بالحضارة الغربية، واستنساخ نموذج الحضارة الغربية حتى في المشاكل، فالواضح أنّ الحضارة الغربية نقدت الموروث العقلي السابق وأبرز مثال على ذلك ما كتبه (كانط) في نقد العقل، وأبرزها الكتب التالية: "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل الجمالي" و"نقد العقل الأخلاقي" ...، وأبرز من سار عندنا على هذا النهج محمد عابد الجابري عندما ألّف سلسلته في نقد العقل العربي فألّف "تكوين العقل العربي"، "بُنية العقل العربي"، "العقل العربي السياسي"، "العقل العربي الأخلاقي". لكنّ الحضارة الغربية التي قامت على الرأسمالية وعلى الاكتشافات الصناعية أسست تأسيساً جديداً في المجال النفسي بعد القطيعة التي أقامتها مع الكنيسة وكهنوتها ومع النظام الإقطاعي ورجالاته، وقد أبقت هذه الحضارة على ثنائية "المقدّس" و"المدنّس" التي صاغتها الكنيسة في العصور الوسطى، لكنها قلبت صياغتها، فالمعلوم أنّ "المدنّس" في أوروبا في العهد الكنسي كان يشتمل على عدّة أمور، أبرزها: المرأة، والدنيا، والشهوات الخ...، وكان "المقدّس" هو: الرهبنة، رجال الدين، الآخرة إلخ... فتغيّرت الصورة بعد النهضة فأصبح "المقدّس" في الحضارة الغربية المعاصرة هو: المرأة والشهوات والدنيا الخ...، وأصبح "المدنّس" هو: الرهبنة، رجال الدين، الآخرة الخ... إنّ هذا التأسيس الجديد للبناء النفسي في الحضارة الغربية جعلهم لا يحتاجون إلى مراجعة البناء النفسي القديم، وهذا الواقع مخالف لما عندنا فإنّ البناء النفسي والعقلي قد حدث فيهما ارتكاسات وفجوات وهما بحاجة إلى مراجعة ونقد ونخل، فراجعنا الجانب العقلي تأسّياً بأوروبا ولم نراجع الجانب النفسي بالقدر الكافي. تناولت في كتابك "الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم" مجموعة من المفكّرين العرب والمسلمين المعاصرين، وصنّفتهم إلى عدّة مدارس فكرية. نقف هنا عند ما أسميته "المدرسة الإصلاحية". ففي نظرك، يمثّل محمد عبده ومالك بن نبي أحد أبرز مفكّريها، والمعلوم أنّ الرجلين يختلفان حول قضايا عديدة، وبن نبي نفسه انتقد محمد عبده في بعض كتبه. فما هي إذن القواسم المشتركة بين هذين المفكّرين، والتي دفعتك لتصنيفيهما في مدرسة واحدة؟ إنّ القواسم المشتركة التي دفعتني إلى تصنيف المفكّرين محمد عبده ومالك بن نبي -رحمهما الله- في مدرسة واحدة هي: كونهما يلتقيان في النظرة السوداء إلى الواقع الذي انطلقا في معالجته، فنجد أنّ محمد عبده صوّر واقع المجتمع المصري بأنه واقع مُستعبد، تسوده الخرافة وتمتطيه الأوهام، ووصف واقع المدارس والأزهر والمحاكم بالواقع الخرب، وكذلك اعتبر مالك بن نبي أنّ عوامل التعارض الداخلية في المجتمع الإسلامي بلغت قمّتها في نهاية دولة الموحّدين، ولم يَعُد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة بل أصبحت عناصر خامدة ليس بينها صلة مبدعة، وربط مالك بن نبي بين الانحطاط وبين القابلية للاستعمار، فاعتبر أنّ هذه القابلية معامل باطني يستجيب للمعامل الخارجي، أبرز نتائج هذا المعامل الباطني: البطالة وانحطاط الأخلاق الذي يؤدّي إلى الرذيلة، وتغرق المجتمع الذي يؤدّي إلى الفشل من الناحية الأدبية. وأنا لا أختلف معهما في أصل وجود التخلّف، فيجب الإقرار بأنّ هناك تخلّفاً وتأخّراً وأزمات تحتاج إلى معالجة، ولكنني أختلف معهما في حجم هذا التخلّف والتأخّر، ولا أعتبره انحطاطاً بل أعتبره أزمات ومشاكل يمكن معالجتها تحت سقف المرجعية الإسلامية. ومن القواسم التي جمعتها وجعلتني أصنّفهما في مدرسة واحدة هي صلتهما بالحكّام، فمحمد عبده أقام صلة بخديوي مصر توفيق، ثم أقام صلة مع كرومر المندوب السامي الإنجليزي الذي حكم مصر بعد احتلال الإنجليز لمصر عام 1882، وكذلك مالك بن نبي فقد أقام صلة مع ضبّاط ثورة يوليو 1952، وامتدحهم وأشاد بثورتهم، ثم أقام صلة مع بن بلّه في الجزائر، ومع معمر القذافي في ليبيا، وحاول أن يبرّر بعض خطط أولئك الحكّام وأعمالهم، وأنا أرى أنّ جماهير الأمّة كانت أولى بالانحياز من قِبلهما. ومن القواسم المشتركة بين المفكّرين محمد عبده ومالك بن نبي تعاملهما مع نخبة من الأشخاص وليس مع جماهير الناس، وهذا ما جعل عملهما نخبويّاً وليس جماهيريّاً. ميّزت في دراستك "العالِم بين مواصفات الماضي وإشكاليّات الحاضر" بين علماء التراث وعلماء العصر، مؤكّداً أنّ علماء السلف جمعوا صفات كثيرة قلّما نجدها عند العلماء المعاصرين، وهي: الربّانية، الإحاطة بالعلوم الإسلامية، الإبداع في مجال أو أكثر من مجالات العلوم الإسلامية، الارتباط بقضايا الأمّة، الإطلاع على علوم العصر. ما الذي تغيّر بنظرك؟ هناك تساهل كبير في منح لقب "العالِم" في ساحة الثقافة الإسلامية لمن لا يستحقّونه، وربما كان هذا التساهل ناتجاً من عدم وعي العناصر المطلوبة للحصول على لقب "العالِم" من جهة، وإلى تغلّب "الكم" على "الكيف" في تقويم الأفراد المرشَّحين للحصول على لقب "العالِم" من جهة ثانية، وإلى تفشّي ظاهرة "التحزّب" لبعض الكتّاب المنتمين لحزب معيّن من جهة ثالثة، وربّما جاءت الثغرة الكبرى في علماء العصر أنّ بعضهم مطّلع على علوم التراث من قرآن وحديث وسيرة وليس مطّلعاً على علوم الغرب، أو العكس مطّلع على علوم الغرب وليس مطّلعاً على علوم التراث، وقد جاءت هذه الثنائية عندما انفصلت العلوم الدينية عن العلوم الدنيوية في القرن التاسع عشر، وأصبح لكل تعليم مدارسه وطلاّبه وإدارته، وقد أعطى هذا التقسيم الثنائي للعلوم نتائجه الضارة على مسيرة الأمّة الثقافية، وأصبح يتطلّب تجاوز النتائج الضارة جهداً خاصاً من المفكّر نفسه، ومن المؤسّسات المدنية لسدّ هذه الثغرة، ومعالجة آثارها السيئة، كما أثّر على توليد الإبداع، فالإبداع يتولّد عندما يحيط العالِم بالعلوم الدينية والدنيوية، لكنّ العلوم الدنيوية أصبح الغرب رائداً وقائداً لها، وهذا الوضع أبعد علماءنا بشكل تلقائي عن محضن الإبداع، وأصبح هذا الوضع يتطلّب جهداً كبيراً من العالِم من أجل تجاوزه والإحاطة بعلوم الغرب وهضمها وتمثّلها. يرى بعض المفكّرين المعاصرين كالدكتور رضوان السيد والدكتور زكي الميلاد أنّ روّاد الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين كانوا أكثر إبداعاً وتفتّحاً من مفكّري الصحوة الإسلامية. ما رأيك؟ حتى يكون جوابنا موضوعياً في تحديد من هو الأكثر إبداعاً وتفتّحاً يستحسن أن نجيب على عدّة أسئلة، هي: من الذي طرح هذه المقولة؟ وما محتوى هذه المقولة؟ وحتى نصدر حكماً على هذه المقولة يجب أن نتفحّص مضمون التحوّل من روّاد الإصلاح إلى مفكّري الصحوة. على الأرجح إنّ الذي طرح المقولة المذكورة في السؤال ليس الدكتور رضوان السيد ولا زكي الميلاد، بل الذي طرحها الصحفي المصري صلاح عيسى، وقد حقق ذلك الكاتب السعودي علي العميم في أحد كتبه، وتبرز المقولة أنّ السابق أكثر انفتاحاً من اللاحق في سلسلة الكتّاب بدءاً من محمد عبده ومروراً بمحمد رشيد رضا وحسن البنّا وسيّد قطب. فسلسلة الإضافات الفكرية تبدأ بمحمد عبده وتنتهي بسيّد قطب. والآن: ما مضمون إضافة اللاحق إلى السابق في هذه السلسلة؟ إنّ أبرز إضافات محمد رشيد رضا كانت تصحيحاً لبعض طروحات محمد عبده وبخاصة في الموقف من الحضارة الغربية واعتماد السلفية في مواجهتها، وإبراز دور الحديث الشريف في محاربة البدع، والاهتمام بالحكومة الإسلامية بعد سقوط الخلافة، ثم جاء حسن البنّا فأضاف إلى موقف محمد رشيد رضا بعد أن أخذ مواقفه الجديدة، أضاف إليها السعي إلى إعادة الخلافة الإسلامية من خلال جماهير الأمّة، ثم جاء سيّد قطب ليؤصّل للحكم الإسلامي واعتباره جزءاً من دين المسلم وإيمانه، وأنا أعتبر أنّ الإضافات كانت تصويباً لبعض المقولات السابقة، أو كانت إضافات يقتضيها السياق الفكري وواقع الأمّة الحياتي، لذلك لا أتفق مع رضوان السيّد وزكي الميلاد في تشخيصهما لهذه الإضافات وهذه الانتقالات بأنها كانت أقلّ إبداعاً، بل على العكس فالانتقال إلى الأصوب أو استكمال الصواب عندما يكون ناقصاً عند السابق في بعض جوانبه لا أعتبره إلاّ إبداعاً، أمّا الانفتاح على الحضارة الغربية فالجميع كان منفتحاً عليها ويأخذ منها ويرفض حسب الموقف الفكري. طرح المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي فكرة "العودة إلى الذات" كمنطلق لبناء المشروع الحضاري الإسلامي. فكيف يمكن أن نحقّق هذا المطلب، ونفعّل موروثنا الحضاري في ظلّ ثورة المعلومات وتحدّيات العولمة؟ أرى صوابيّة "العودة إلى الذات" كجانب من جوانب المشروع الحضاري الإسلامي، وفي اعتقادي أنّ الفكر القومي العربي الذي قاد الأمّة خلال القرن الماضي كان أساس الخطأ الذي وقع فيه أنه لم ينطلق من الذات، بل انطلق من مقايسات جزئية، ومشابهات سطحية بين الأمّتين الألمانية والأمّة العربية، وتجسّدت المشابهات في عراقة اللغتين: الألمانية والعربية، وفي تجزّؤ الأمّة الألمانية في الماضي إلى عشرات الدول ثم توحّدها، وكذلك حدوث التجزئة في البلاد العربية وحاجتها إلى الوحدة، ثم أسقط هذا الفكر القومي العربي هذه المقايسات والمشابهات على واقع منطقتنا واعتبر أنّ الأمّة التي تقطن المنطقة من المحيط إلى الخليج هي أمّة عربية تقوم على عاملي اللغة والتاريخ بناء على هذه المقايسات والمشابهات، إنّ عدم العودة إلى الذات ودراسة الواقع دراسة تفصيلية لمعرفة واقع حياتنا ووجودنا هو الذي جعل الفكر القومي العربي يقع في هذا الخطأ الفادح فيغفل دور الدين في إنشاء هذه الأمّة، وجعله بالتالي يفشل في إقامة النهضة، وجعل الفكر القومي العربي يعاني فقراً ثقافياً، ويلجأ إلى التغريب الليبرالي حيناً وإلى التغريب الاشتراكي الشيوعي حيناً آخر، وقد كانت آثار ذلك كبيرة على إضعاف الأمّة، وعلى تفتيت وحدتها الثقافية وخلخلتها، وقد فصّلت ذلك في مواطن متعدّدة من كتبي ومقالاتي التي نشرتها سابقاً. أعود فأؤكّد أنني أتفق مع الفكرة تمام الاتفاق وأرى أنّ ذلك يتحقّق بدراسة واقع الأمة دراسة تفصيلية: أسباب ضعف الأمّة، حقيقة البناء النفسي والعقلي للفرد، عوامل حيوية الأمّة في الماضي التطوّر الاقتصادي، تطوّر العلوم الإسلامية والمنعطفات الرئيسية فيها الخ...، وأميل إلى أنّ الدراسات الجادّة المعمّقة المثمرة في دراسة هذا الواقع دراسات قليلة، لذلك يمكن أن نعتبر هذا عاملاً من عوامل عدم حيوية الأمّة وفاعليّتها في الوقت الحاضر، وعاملاً من عوامل عدم تحقّق نهضتها.