ولد أستاذنا الفاضل الدكتور جاسر الحربش في عصر شبهه بالعصر الحجري فهو يخاف من العودة إليه، فما بال بنوكنا تعيش في العصر الحجري وهي قد وُلدت حديثة متقدمة. ففي الخمسينات الميلادية، وفي زمن المؤسس- رحمه الله-، نشأت بنوكنا كمثيلاتها من البنوك آنذاك، لذا فقد كانت متقدمة عن بيئتها. ورغم تأخر الثقافة الاقتصادية وهيمنة التخطيط المركزي على اقتصاديات البلاد، إلا أن بنوكنا -وخلال أربعة عقود- استطاعت أن تحافظ على نمو نسبي في تطوير العمل البنكي لديها، والذي وإن كان متواضعا مع تطور الصناعة البنكية العالمية إلا أنه كان يتجاوز بمراحل كبيرة في تقدمه مستوى ثقافة المجتمع الاقتصادية البدائية والإمكانيات العلمية الضعيفة والقديمة لخبرائه الاقتصاديين، ولذا اكتسب البنكيون -على بساطة علومهم ومحدودية قدراتهم- سمعة مهنية رفيعة في مجتمعنا البدائي. وجاء عقد غفلة الصحوة مقترنا بفترة الشظف الاقتصادي، فخلدت البنوك إلى الدعة واكتفت بالاقتيات على إقراض الحكومة، ونامت نومة أهل الكهف ثم استفاقت على طفرة مالية -ولا أقول اقتصادية- ومجتمع قد قبل بها أخيرا، بعد هجر وخصام طويل. مجتمع بدائي في اقتصادياته، متخلف في ثقافته المالية وخبراته التمويلية. فلم ترفع البنوك المجتمع إليها بل نزلت إليه فاستغلت بدائيته وجهله، فاستولت على مدخراته الماضية والمستقبلية. وسرعان ما أدرك البنوكَ الجهلُ والبدائيةُ التي استغلت الناس بها، فلم تستطع أن ترتقي إلى الصناعة البنكية الحديثة ومفاهيمها، فآثرت تراثها البنكي القديم، الجُفرة. (حيث يحكي الخبر أن الجفرة -على اسمها- كانت عندنا قديما مكان تجمع الديَّانة (بياعين الفلوس) الذين يبيعون الريال بأنواعه الذهبية والفضية المختلفة بمثله بالتقسيط إلى أجل أضعافا مضاعفة عن طريق إدخال سلعة غير مقصودة تحايلا على الله واستهزاء بشرعه). لا أحد يزعم إمكانية مقارنة بنوكنا بالبنوك العالمية الكبيرة وما وصلت إليه من تطور الصناعة البنكية، بل بالبنوك الصغيرة التي لا تقوم إلا بعمل الإيداع والتمويل. هذا العمل على بساطته لم تستطع بنوكنا القيام به إلا بطرق بدائية وساذجة، فقد قيدت إبداعياتها ثقافة بنكيات الجُفرة. وعمل البنوك في العالم قائم على صناعة المعلومات وعلى التحليل المتطور للمخاطر والمشاريع لأن ثقافة التمويل هناك هي مشاركة البنوك في مخاطرة التمويلات من أجل تحفيز المشاريع التنموية الناجحة. وأما عمل البنوك عندنا فهو بدائي يعتمد غالبا على الأسماء التي يُظن أنها تضمن أموالهم لا على الجدوى من المشاريع ومخاطرها ونفعها. فثقافة التمويل عندنا ثقافة منفعية ربحية يتحقق فيها معنى الربوية الظالمة التي لا تجعل البنوك تشارك في المخاطرة، مما لا يجعل تحفيز النمو الاقتصادي الأمثل ناتجا من نتائج ثقافة التمويلات. ومن أجل مفهوم المشاركة في المخاطرة، فالبنوك في العالم لا تمول المستهلك بارتهان راتبه، بل بدراسة حالته مما يمنعها من استغلاله قبل القرض وبعده خوفا من عجزه عن السداد. وأما بنوكنا فهم يتسابقون على إقراض الضعيف والمحتاج ثم يقومون بإغوائه بالمخاطرة بقرضه، فارتهان راتبه أقصى جهودهم، ثم نفخر بأن معدل تعثر الأفراد هو الأقل عالميا عندنا رغم ارتفاع أحجامها. والبنوك في العالم تبين أسعار الفائدة وتسوق بها، وعندنا يُدلس بها ويُغش حتى اختلط الأمر على كبار المستثمرين فكيف بغيرهم. وعقود التمويلات في البنوك العالمية عقود واضحة شارحة، وعقود بنوكنا عقود بدائية كبدائية عقود أهل الجُفرة بالأمس، ولكنها اليوم مليئة بالغبن والفخاخ البنكية، ولا تخلو من التناقضات ومن جعل المواطن مقترضا ومستأجرا وشاريا وبائعا وراهنا ومديونا في آن واحد، وتجعل من البنك المحسن الواهب المتبرع صاحب الخيار المطلق. ما أقرب حال أفغانستان قبل الجهاد ووضعه اليوم بحال بنوكنا قبل الصحوة وبعدها. فهناك اُستغل فساد حاكم خائن فأُفسدت البلاد والعباد باسم الدين. وهنا اُستغلت فتوى قديمة لا يقوم لها اليوم دليل، فأفسدت عمل البنوك فأفسدوا ثقافة التمويل باسم الدين، وتخلفت البنوك -بسبب نزولهم إلى عقلية فقه التيوس المحللة- فنشروا الجهل بين الناس بعد أن انتشر فيها، وتخلت البنوك عن تطوير ذاتها علميا وبنكيا وانصرفوا إلى جمع أرباح لم تتحقق بعقلية المطور المبدع بل باستغلال جهل مجتمع بدائي المعرفة في ثقافة التمويلات. وإن مما يسكت عنه اليوم أن بنوكنا بعد أن اختلطت عليها مفاهيمها فجهلت وارتضت من نفسها بعمل أهل الجفرة واكتفت به، قد أصبحت عائقا أساسيا في انتشار المعرفة الصحيحة والثقافة التمويلية الحديثة البناءة في مجتمعنا.