لم يحظ شاعر من شعراء أمتنا العربية بهذه المساحة الواسعة من الخلاف والجدل حول شعره من النقاد مثلما حظي نزار قباني وهو الذي كان ولايزال يثير مشاعر متناقضة عند قرائه ما بين الحب والنهم لما يكتبه وما بين الرفض الشديد له.. وصفه البعض بأنه شاعر عبقري.. ووصفه آخرون بأنه شاعر المرأة والمجون.. وذهب مهاجموه إلى أنه ليس شاعراً من الأساس وأكدوا أنه سبب رئيسي في افساد الذوق العام وانتشار الفوضى والترهل في الشعر العربي. في اطار هذا الجدل الواسع المثار دوماً حول نزار قباني وشعره عقد مركز راستان الثقافي بمتحف طه حسين بالقاهرة ندوة تحت عنوان «نزار قباني بين المدح والنقد» بمناسبة الاحتفال بذكراه تحدث فيها الدكتور الطاهر مكي والدكتور أبوهمام عبداللطيف حول تقييم نزار قباني وشعره. شاعر كبير أشار د. الطاهر مكي إلى الاختلاف والجدل الواسع الذي أثاره نزار قباني كشاعر وحيرة النقاد حول تصنيفه قائلاً: لقد حسم نزار نفسه هذه القضية حينما قال: «لاتعذبوا أنفسكم في تصنيفي فأنا شاعر خارج التصنيف وخارج الوصف فلا أنا حداثي ولا أنا تقليدي ولا كلاسيكي ولا رمزي ولا رومانسي ولا ماضوي ولا حاضري ولا مستقبلي.. فأنا خلطة لا يستطيع أي مختبر أن يحللها.. أنا خلطة حرية..». وأضاف: لقد قرأت شعر نزار قباني وأعجبت به جداً ووجدت أنني أمام شاعر كبير وعظيم بكل المعاني ولذلك أقول للذين يهاجمونه إنهم يظلمونه كثيراً فالمعروف أن الاسراف في النقد يقتل الفن ويذهب باللذة الموجودة في العمل الفني وأن الانسان اذا بدأ في قراءة رواية أو قصة ولم يتركها حتى يكملها أو اذا قرأ قصيدة وحفظها من المرة الثانية أو الثالثة فهو بلا شك أمام روائي وشاعر عظيم بغض النظر عما يقوله حوله النقاد وأنا شخصياً مازلت أحفظ قصيدة غرناطة لنزار قباني مثلاً رغم أنني لم أقرأها إلا مرة واحدة فقط منذ أكثر من 35 عاماً. وأكد الدكتور مكي على أن نزار كان شاعراً عبقرياً ولكن عبقريته كان لها جوانب سلبية وأخرى ايجابية فهو عبقري يبتدع الأنماط والصور والمعاني الجديدة ولا يأتي ابداعه في مستوى واحد ولكنه متفاوت وله في ذلك قصائد بلغ فيها القمة وقصائد أخرى لا أرتضيها. والى جانب عبقريته كان ايضا شاعراً ثورياً وأول بيت خطه في الشعر كان يعبر عن وجهة نظره في الثورة والثوريين واختلافه معهم وهو ثوري ايضا لأنه استطاع ان يحطم الأطر التقليدية الشعرية التي كان الشعر وقتها يتحرك في إطارها. وقال: لقد كان نزار أيضاً شاعراً تحريضياً وكان يرى أن كل مبدع هو محرِّض بطبيعته ولا يوجد مبدع محترم يرضى على نفسه أن يجلس في صفوف الموافقين وله رأي مخالف. وكونه شاعراً تحريضياً لا يعني انه كان يحرض النساء على الرذيلة كما يتهمه البعض ولكنه كان يحرضهن على كسر التقاليد والعادات التي تحول دون قيامهم بدورهن في الحياة سواء بسواء إلى جانب الرجال.. وكان نزار قد شهد مأساة في بيته دفعته إلى ذلك فقد أنتحرت أخته الكبرى لأن التقاليد في عائلتهم حالت بينها وبين أن تتزوج من تحب ولذلك كرَّس حياته للنضال من أجل حرية المرأة. ويذهب البعض إلى اتهامه بأنه كان شاعر المرأة والجسد فقط وأنه في نضاله الوطني كان متقلباً وبلا موقف ولا مبدأ واحد والحقيقة أنه كان شاعر المرأة والوطنية معاً وكان يرى أن نضاله من أجل حرية المرأة لا يختلف عن النضال من أجل حرية الوطن فهو يربط القضيتين معاً ويجعلهما وجهين لعملة واحدة. علاقة نزار بالمتنبي وكشف الدكتور مكِّي عن وجود علاقة بين نزار قباني والمتنبِّي وقال إنه من خلال دراسته لحياة نزار وشعره وجد ثمة ألوان متعددة من الشبه والاختلاف بينه وبين المتنبي فكلاهما جاء في عصر عربي مضطرب يتخطف فيه الأعداء الأمة العربية من كل جانب وكلاهما امتلأت حياته بالمنغصات وقد مات المتنبي قتيلاً ومات نزار غريباً منفياً بعيداً عن أهله ووطنه وكلاهما أيضا ثار على الأوضاع السيئة في عصره واعتز بشعره ولكن لأن المتنبي رحل عن دنيانا منذ زمن طويل فقد اعتبرنا اعتزازه هذا شموخاً وكبرياء ولأن نزار كان يعيش بيننا فقد تناوشه الباغضون والكارهون واتهموه بالماركسية ومع ذلك فكلاهما قد عبر عن واقع عصره. لكن توجد نقطة اختلاف بينهما فالمتنبي فارس من البادية وعبر عما يريد في فروسية ولغة صعبة وعالية أما نزار فكان دبلوماسياً من العصر الحاضر وعبر عما يريد في لغة سهلة وديعة تتفق مع مجريات العصر. لغة وموسيقى خاصة وأوضح الدكتور مكي أن عبقرية نزار الشعرية كانت تكمن في انفراده بلغة وموسيقى خاصة به فقد كانت لغته سهلة وبسيطة تجمع بين حكمة الفصحى وتقترب من شفافية اللغة الدارجة وكان من الممكن أن يستخدم ألفاظا عامية تستخدم في أي بلد عربي اذا اقتضت الضرورة. فقد كان يرى أن اللغة ما هي إلا أداة اتصال وأن وظيفتها أن توصل احساسه إلى القارىء. وهو لا يتفلسف ولكن الشاعر يعبر عما يحس به دون عقبات وهذه اللغة السهلة البسيطة هي التي جعلته شاعراً جماهيرياً ودواوينه أكثر الدواوين العربية طباعة ونشراً وقصائده أكثر القصائد صلاحية للغناء والطرب. وأضاف أنه لمس ثلاثة اتجاهات أو مراحل في موسيقى شعر نزار قباني أولها: عندما كان يلتزم بعروض الخليل بن احمد ومتطلبات القافية التزاماً كاملاً وتعتبر قصائده في هذه المرحلة من أجمل القصائد وأكثرها ذيوعاً وثانيها: عندما لم يلغ القافية تماماً ولكنه كان يلجأ ربما متأثراً بالموشحات ولكن في غير اجادة تامة إلى قافية مدورة بمعنى أن نهاية المقطع تتفق قافية مع قافية البيت الأول منها. أما المرحلة الثالثة فهي التي تخلَّص فيها من القافية وبدأ يكتب الشِّعر الحر المطلق الذي لا تقيده قافية ولا يربطه بحر عروض وتعتبر قصائده في هذه المرحلة من أسوأ القصائد التي كتبها ولكني أحمد له عدم تبرير ذلك ببعض الادعاءات الكاذبة لبعض الشعراء واعترافه بأن القافية في قصائده الأخيرة كانت تزعجه ولم تكن تستجيب له.وأكد الدكتور مكي أن هناك شيئاً هاماً لا يمكن أن ننساه لنزار قباني وهو انه ارتقى بفنه وشعره على أن يضعه في ذمة أي فرد أو أي سلطة وكان دائماً شاعراً مستقلاً. ليس شعراً وليس بشاعر وعلى النقيض من الرأي السابق قال الدكتور أبوهمام عبداللطيف: إنني أحد الذين لايعترفون بنزار كشاعر ولا أعترف بان ما كتبه كان شعراً بالمعنى المعروف للشعر العربي وأنا شخصياً لا أقرأ له إلا قبل النوم أو في المواصلات وأقرأه مرة واحدة فقط ولا أعاوده مرة أخرى ولا يمكن أن يتساوى شعره عندي مع شعر العظماء مثل المتنبي والعقاد وغيرهم فأنا لا أقرأ إلا مايتضمن فكراً وتأملا وما يكون جديداً وجاداً وهذا لا اجده في قصائد نزار قباني ولم أشعر أبداً أن شعره فتح أمامي شيئاً جديدا وأنا لست مبالغا ولا متجنياً عليه اذا قلت ذلك ولكني أعطيه حقه وأعطي نفسي حقها في نقده رغم أنني أعلم أن رأيي هذا لن يعجب الكثيرين. وأضاف: نزار شاعر جماهيري من الطراز الأول ولكن معدن الشاعرية فيه مختلف فالمعروف أن للجماهير لغتها الخاصة وقد استطاع نزار أن يضع يده على هذه اللغة ويزينها بموسيقاه التي أتقنها ولا نظير له فيها على ما أعلم واذا كانت هذه الموسيقى هي سبب شهرته وجماهيريته فهي عنصر واحد فقط من عناصر الشعر وليست كل شيء واعتقد ان للشعر الأصيل جمهوراً خاصاً ولابد أن يميز هذا الجمهور بين الرواية والقصة والنثر والشعر الذي هو قدس الأقداس.وقد أحب الشباب نزار وشعره لأنه لم تنضج تجربته بعد في قراءة الكلام الجيد كما نضجنا نحن وقد اعتمد نزار على هذه النقطة فكان يقول أي كلام دون تجويد أو تنقيح لأنه كان يعلم أن الجماهير ستستقبل كل ما يكتبه بنفس الحماس والتصفيق وأعتقد أنه بعد خمسين سنة مثلاً وحينما يرتقي ذوق الأمة سوف تجعل سعر نزار قباني في مخازن الأدب لأنه لا يقدم أي شيء مفيد. وأشار أبو همام إلى أن وصف نزار قباني بأنه شاعر المرأة هو وصف خاطىء لأنه كان شاعر امرأة معينة فهو في الحقيقة لم يستطع فهم المرأة ولم يقدم لها فهماً صحيحاً كالشعراء الذين قدموها قبله فالمرأة عنده طراز واحد وهي طالبة وليست مطلوبة وتتهافت دائماً على نزار قباني وحتى المرأة التي تهجر زوجها أو يهجرها هو يشبهها بأنها ثوب من الأثواب ألقاه كما أن تغزله في جسد المرأة ومفاتنها ليس فيه فهم حقيقي وصحيح لها وانما هو فهم ساذج وبسيط ويشوه من صورتها. فوضى وتقليد وأكد أن شعر نزار قباني ليس إلا كلاماً سهلاً لا ينظمه من يريد لغة وثقافة وشعراً صحيحاً كما أن الموضوعات التي تناولها موضوعات سطحية ولم يستطع أن يصنع منها شيئاً مهماً وهناك فرق كبير بين السهولة والبساطة ونزار تصور أنه بهذه الصورة سيكون بسيطاً ولكنه ترهل وليس ببساطة فكلامه موزون ولكنه لا يستطيع أن يدخل حظيرة الشعر وأي انسان يستطيع أن يقول مثل هذا الكلام.وأضاف: شعر نزار قباني ينطق بالفوضى التي أصابته فقد هوى حتى كاد أن يصل مستواه إلى الأعمدة الصحفية لا الشعر كما أنه في بداية حياته أخذ من الآخرين ومن الأوروبيين ولكنه أخفى ذلك، فمثلاً قصيدته التي غنتها ماجدة الرومي والتي يقول مطلعها: «أخرج من معطفه الكبريت وعلبة الثقاب» هي مأخوذة نصاً من قصيدة لجاك برييه عنوانها «افطار الصباح». وأعتقد ان نزار قباني ساعد بشعره في إفساد الذوق العام وأثَّر في بعض الشعراء الجدد الذين مسخوه ولم يقلدوه تقليداً صحيحاً وهؤلاء وحدهم كارثة لأنهم اقتحموا حياتنا الشعرية وهم ليس من الشعراء في شىء!.