خذله القلب الذي لم يخفق إلا للشعر والحب، ورحل سيد العاشقين قبل أن يشق فجر اليوم الأخير من نيسان ليل لندن التي عاش سنواته الأخيرة فيها، على رغم حنينه الجارف الى المدن التي توجها يقصائده: دمشقوبيروتوالقاهرة.. وباريس. ويعود الشاعر الظاهرة الى مسقط رأسه، الشام، لأنها، كما قال في وصيته "الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع واهداني أبجدية الياسمين". وتعود "الوسط" الى شعر الغائب الذي طبع جيلين عربيين كاملين، وهز السياسي منه وجدان العرب. خصوصاً في فترات الهزائم، فتنشر شهادات لأقرانه من الشعراء والكتاب، من أجيال مختلفة. أثار شعر نزار قباني منذ نهاية الاربعينات حتى اليوم من الاشكالات ما يذكرنا بما كان لشوقي من وطر مع دارسي الشعر وممثلي الاتجاهات القديمة والحديثة معاً في مصر وفي البلدان العربية خلال النصف الثاني من هذا القرن. ومع اختلاف منهجي الكتابة عند الاثنين وتباعد الزمن بينهما الا ان التشابه في بداية تجاربهما على الأقل يبرز في تحديد مفهوم علاقة الشعر بالتلقي، بما تنطوي عليه العلاقة من ازدواج بين جماهيرية القول وشيوعه ونخبوية الطرح والمضامين. فالسهولة والترف والاناقة وشحنة الشخصي في القول أثارت حفيظة سدنة الشعر المجدد فيهم والتقليدي، فكان ان حدث لشوقي ما حدث لنزار لاحقاً، حيث رأى نقاد الشعر ومنظروه في قصيدة شوقي فقراً الى المعانى الفكرية المركبة وانشغالاً عن قضايا "الشعر الرفيع" حسب تعبير العقاد. كما رأى من تصدى لشعر نزار هذا الرأي وإن اختلف التعبير. انتهى العقاد وصحبه من دون ان يتركوا في ميدان الشعر أثراً يذكر، وبقي شوقي مجدداً بموهبته وبما يفوق نتاج من تحدثوا باسم التجديد من دون ان يكسبوا مستمعين او قراء مثلما كسب شاعرنا. وحدث ما حدث لنزار مع الشعر وإن اختلف المشهد الشعري وتطورت مفاهيم الشعرية العربية لاحقاً. وان كان لنا ان لا نمضي بعيداً في مبحث شائك حول نخبوية الشعر وجماهيريته، وهو مفهوم نسبي يتبع ما تعنيه النخبوية من دلالة لا تصح في كل زمان وظرف، غير ان المجدي ان نتذكر ان نزار قباني وقف بين هذين الحدين في جدل حول قصيدته التي ظهرت في أكثر أوقات الشعر العربي انشغالاً عن القضايا الشخصية وموضوعه الحب على وجه التحديد. ومن الأصح هنا ان نتذكر ان الشعرية العربية في طورها الرومانسي كانت حافلة بمواضيع الحب والعشق التي اختص بها نزار لاحقاً، إلا ان ما يمكن ان ننسبه من شعر لنزار لا يقع في هذا الباب وحده، بل ينصب على طرف في معادلته وهو المرأة، المرأة التي من النادر ان يقول عربي ما قاله نزار عنها. تعلم فن الهوى نشر نزار قباني ديوانه الأول "قالت لي السمراء" في العام 1944. وكانت قصيدته "نهداك" في هذا الديوان "الشرارة الأولى التي اطلقتني، والمفتاح الى شهرتي" حسبما يقول الشاعر وما ترويه الوقائع، لذا كان مدخله الثاني الى جسد المرأة معنوناً بديوانه الجديد "طفولة نهد" 1948. وكان الشعر وقتها يتوجه صوب ثورة جديدة في القول مترددة بين بقايا مواضيع الرومانسية وفي المقدمة منها الحب وبين المواضيع الأخرى التي جرفت بتيارها هذه الموجة. فانطلاقة الشعر الحر لم تغير مفهوم الشكل الشعري، بل كان منجزها الأهم التصدي لمشكلة الادراك أي علاقة الذات بالموضوع، انها بكلمة أخرى كانت نتاج تطور في الموقف الفكري وفي وجه النظر الاجتماعي، او هي محاولة لتمثل أفكار العصر وتطلعاته. بيد ان ذلك التمثل بقي في حدود العلاقة النظرية بين الشاعر والأفكار. فالشاعر عصري على مستوى استيعابه القضايا الكبرى، انشغالات العالم الفكرية. ولكنه في القضايا الوجدانية والشخصية، وفي موضوع الحب على وجه الخصوص أسير النظرة القديمة. تكتب نازك الملائكة قصيدة الحب بعاطفة شخصية ولكنها مرحلة الى فكرة أعم وهي فكرة التشاؤم التي استقتها من فلسفة شوبنهاور حسبما تقول. اما قصائد الحب لدى السياب في تلك الفترة فكانت أغلبها تدور حول خيال الرومانسيين المصريين او تتحرك في مجرات الفكر الاجتماعي الذي يرى في المرأة رمزاً للقهر والانتهاك أو دلالة على حالة أعم تمثل الوطن او القضية. يتوجه السياب في قصيدته "أنشودة المطر" الى عيني امرأة، لكن مشاعره هذه لم تكن سوى توطئة لترتيب المشهد الذي يزخر بمركبات أخرى. ان غزله هذا كما البادئة او الاستهلال في القصيدة الجاهلية، وهذه واحدة من أسرار نجاحات شعر السياب، فتجديده يقوم على الأخذ بمكونات الموروث الشعري وتوظيفها بذكاء. بيد ان ما نسب الى هذا المقطع من تخيل لمرموز يعود على عشتار أو آلهة الخصب، يبدو في القراءة المتمعنة محض اسقاط لما لحق من أمر استعانة السياب بالرموز البابلية والسومرية. والمهم في القضية ان الغزل او قول الحب في شعر المرحلة التي رافقت شهرة قباني لم يكن يحمل ملمح الافصاح عن هذه العاطفة من منطلق مواجهة الواقع والتحدث عن مكوناته. فالمرأة في شعر اولئك الشعراء ينبغي ان تدخل ضمن مكونات منظور رؤيوي شامل، مع ان شعر بلند الحيدري في هذا الميدان اقترب من أجواء نزار قباني في طريقة الأداء وتبسيط الصورة وافراغها من حمولتها التأويلية وان حاول ان يصوغها ضمن نزعة التأكيد على غربة الشاعر في عالمه. كما يلوح في شعر فدوى طوقان التأثر بعوامل نزار قباني، وبعض قصائدها تكاد تكون مجاراة لنرسيسية نزار وجرأته في الاعراب عن رغائبه. جماليات المصطلح الجديد ومن الصعب في هذه العجالة متابعة تأثيرات نزار قباني على الكثير من شعراء مرحلته، لكن قصيدة الحب لدى هؤلاء الشعراء حتى وهي تحاول الاقتراب من حميمية عوالمه وتفردها، تبقى غير قادرة على احداث الاثر الذي تعود عليه قراء قصيدة نزار قباني في تلك الفترة التي شغلت الناس بجماليات المصطلح الجديد ومواقفه الفكرية، كان نزار قباني يكسب جمهوره بالعاطفة وحدها وبصورة المرأة التي اشتغل عليها كنموذج او "موديل" عصري يشتهيه قراؤه من الرجال والنساء. المرأة لم تكن في شعره رمزاً بل وجوداً عيانياً محسوساً تخضع الى فحص من رأسها حتى أخمص قدميها. والشاعر في هذا المنحى يختصر المسافة بينه وبينها من خلال رصده حركتها المحسوسة وحاجياتها ومشاعرها وهي عاشقة ومعشوقة. وامرأته هذه ينبغي ان تكون من طراز خاص تصلح ان تكون نجمة سينمائية او فتاة اعلان وغلاف لأنها مهيأ دائماً لكاميرا تتبع خطواتها، فأثوابها في العادة مترفة وعطورها وجواربها ومكملات زينتها الثمينة تتبعثر على مشهد ساكن في غرفتها وبين أضواء الطبيعة وألوانها: رشات الضوء ورشق التطاريز والمنمنمات وشلالات الورود والبراعم الخضراء. جمال صورته الشعرية تخلق من حكايات صغيرة يرويها على لسانها او يرصدها في حالة من حالاتها. وهو يمضي الى كل ما كان الشعراء يترددون في الافصاح عنه، الحالة البسيطة والعصرية في الحب. لعل الكثير من الأسئلةيطرح عن موقف الشاعر من المرأة. وبين من تصدى له من الكتاب من يقول ان في موقفه امتهاناً للمرأة كقيمة انسانية، فهي ليست سوى جارية في سوق رقيق، يستعرض جسدها أمام القراء، بل هناك قصائد تهين انوثتها وتشتم تمردها على الدور الذي صاغه لها. بيد ان هذا الرأي ينبغي ان يناقش ضمن مكونات مرحلة نزار قباني التي ابتدأت منتصف الأربعينات وصولاً الى نهاية الستينات حين تعبت قصيدة الحب لديه واستنفدت صورها وخيالها، فاستولد قصائده السياسية التي أحدثت التأثير ذاته في قوة وقعها عند القارئ. ولكن جمهوره بقي يتناسل الى فترة متأخرة، بل الى يومنا هذا بفعل الملكة التي يختص بها نزار دون الشعراء، وهي اثارة انتباه القارئ وامتاعه. رموز واشارات وفي العودة الى المضمون الاجتماعي لقصيدة نزار قباني، علينا ان نتذكر ان الدائرة المحكمة التي أحاطت بالمرأة الى اليوم عربياً، كانت تتشكل من طقوس التحريم التي صاغت التابو العربي حول الجنس، وفي معادلة الحب بين المرأة والرجل ضمن هذا التابو يصبح جسدها مصاناً بقوة التقاليد ومحجوباً عن عين الرجل، وبالتالي مغيباً عن خيال الكاتب او الكاتبة إلا كرموز واشارات. نزار قباني خطا الخطوة الأولى باستخدامه نموذج المرأة الجديدة التي يستنطق جسدها لكي يصبح حراً ومكشوفاً أمام رغائبها ورغائب الرجل. ان قوة مخيلته في الوصف الاباحي، إن صح التعبير قياساً على متعارفات تلك الفترة، كانت تشكل في مضمونها الاجتماعي ثقافة عصرية، متحضرة، تعلم فن الهوى كما صنع اوفيد قبل أزيد من ألفي سنة. ومع الفارق بين تلك المؤلفات وما كتبه نزار قباني، إلا ان من الضروري ان ندرك ان سر نجاحات نزار بين الطلبة والشباب لا يرتبط بشعبوية خياله كما قيل، فلغة نزار ومناخاته وصوره كانت حالة متقدمة حضارياً على الواقع الذي يعيشه معظم قرائها وعلى منظومة تصورات هذا الواقع وفولكلوره في الحب، لكنها كانت قريبة وحميمية وسهلة المنال والتخيل بالنسبة الى هذا النوع من الجمهور الذي دخلت السينما وقصص وروايات الحب الغربية حياته. لغة نزار كانت تجمع خلاصة وعي بالمفردة المطواعة المبتكرة التي تتخفف من حمولتها الفصيحة أولاً ومن الشعرية المتوارثة لتلك الحمولة، لتكتسب ترف المعنى وجزالته وجرأته. كان نزار قباني ناثراً متميزاً في المقام الأول فأصبح التداخل بين الشعر والنثر والاقتراب قدر ما يستطيع من التعبير اليومي العامي من أهم سمات قصيدته. غير ان تلك الخواص كانت مصحوبة بموهبة توليد المعاني، فجمال قصيدته يقوم على خلق مشاعر يومية متداولة لكنها مشاعر شديدة الخصوصية بما لها من قدرة على ان تمتنع عن الآخر الذي لا يستطيع ان يعبر عنها بهذه الشحنة العاطفية. لعل موهبة نزار في هذا الحيز لا تجاريها إلا موهبة مواطنه محمد الماغوط في خلق النعوت والمجازات والاستعارات واللعب على اللفظ ودلالته، التي تبدو وكأنها تستقي من فطرة طبع وعفوية مزاج شاعري، قبل ان تركن الى قراءة او حافظة او كد ذهني او تعب عقلي. طلاقة نزار قباني الشعرية تشكلت في مناخ كسر المحرمات والنبرة التي تبحث عن فضائحية تأسر القارئ وتثير فضوله قدر ما تمتعه وتبعث النشوة فيه. ويتساوى مزاجه هذا سواء في شعر الحب او السياسة. فقصيدته تقوم في الغالب على مشهد درامي، فهناك حكاية على القارئ ان يستكمل رتوشها بحافز فضوله واندهاشه من عوالمها حتى تستوي أمامه كوقائع محتملة. لأن لعبة نزار مع قارئه تبدأ من خلق تخطيطات لمشهد يحفل بالفجوات بما يسمح لقارئه رجلاً كان ام امرأة لكي يستمتع بالبحث عن ذاته في هذا المشهد - اللعبة. ومع ان الأنا او ضمير المتكلم يتقدم على بقية الضمائر في شعر نزار إلا ان قصيدته تغري بالمشاركة فهي دعوة ودرس من دروس الحب الحسي وإن غلف بلغة رومانسية. وان اردنا ان نجمع مواضيعه من خلال دواوينه الأولى سنجدها على قرب من خيال فيه بقايا مراهقة تلوح في كل مناخاته، وفعلها يقترب من عادة معاكسة الفتيات. فالشاعر يرقب المرأة في الشارع وهي تمر أمامه ويترصدها في غرفتها التي غادرتها ويجلس خلف شباكها ويرمي لها رسائل الحب لكي يوقعها ويغريها ويثير فضولها وفضول قارئه معها. لذا غدت قصائده مراسيل غرام بين طلبة الجامعات والمدارس الى فترة متأخرة من ظهورها. تجربة الافصاح عن الحب قصيدتان في ديوانه الأول تدللان على فعل المعاكسة، الأولى عنوانها "مذعورة الفستان" والثانية "سمفونية على الرصيف" يتحول فيهما ضمير الأنا الى صوت جماعي لأن الشاعر يغازل امرأة مرت في شارعهم، والعادة في هذه المغازلة ان يصبح الرجال صوتاً واحداً او ان يستخدم القائل ضمير الجماعة لكي يوحي ببعده عن المرأة المرصودة. وفي ديوانه الثاني يعاود الشغل على هذا الموضوع بقصيدة يعنونها "من هوة المقهى" وأخرى "الى مصطافة". ولكن الأهم في الأمر ان عاطفة الحب في القصائد توحي بامتناعها قدر ما تغري بفتنة الحب الحسي الذي يرى أمامه المرأة جسداً يمضي القائل الى كشف مفاتنه الخبيئة. بيد ان الحب لدى نزار يتلون في مشهد ينتقل فيه من حالة الى حالة فهو لم يبق من فن الهوى امراً دون ان يطرقه، والنساء في هذا المشهد يتغيرن حسب ما تمليه تجربة الافصاح عن هذا الحب. وسواء كن معشوقات فاتنات او خاطئات منبوذات ام مراهقات لم يخضن التجربة او سيدات صالونات او صديقات متمردات، يتساوين لأن الشاعر يلعب الأدوار كلها في أقنعة تضع بينه وبين متفرج مسرحه الأجساد التي تتبادل مواقعها. معظم نسائه يشبهن شاعرهن في لون العينين وفي رقة المشاعر وملمس البشرة وترفهن من ترف أحاط به الشاعر ذاته من أول قصيدة كتبها عن المرأة القرينة التي يتلمس فيها بشرته التي تفوح بعافية شامية، وهو يبحث عنها في بيئته التي تتلون بالنضارة والفرح والزهور والنوافير والحياة الرغيدة المسترخية التي يمعن في تكرار دورة الربيع والاصطياف فيها: "رجع الصيف لعينيك ولي/ فالدنا مرسومة بالأخضر/ وأراجيح لنا معقودة/ ان تمسيها بهدب تطر…". كان نزار في قصيدته "خبز وحشيش وقمر" يتحدث عن الأوهام التي يعيشها العرب، تلك التي ساقتهم الى هزيمة حزيران. ومن خلال شعره الذي يقوم على الوهم الجميل، عاش الشباب المحروم من فرص الحب والمتعة الحقيقية، أجيالاً تعيد كتابة الابجدية التي علمتهم اياها قصيدته، من دون ان يدركوا سر هزائمهم الروحية المتتالية. وحين انتهت تلك القصيدة بعد ثلاثة عقود من تكرار صورها وعوالمها وامعانها في النثرية التي فقدت مبرراتها الأولى، كان نزار يسدل الستار على مقطع قاله مرة وما زال يحتفظ بقوة وقعه مهما بعدت به الأيام: "عشرون عاما فوق درب الهوى/ ولا يزال الدرب مجهولا/ فمرة كنت أنا قاتلاً/ وأكثر المرات مقتولا/ عشرون عاماً… يا كتاب الهوى/ ولم أزل في الصفحة الأولى". عبدالوهاب البياتي: قرأت ديوانه الأول فتنسمت ياسمين دمشق ذات يوم، وأنا اتجول في "سوق السراي" وهو أهم سوق في بغداد، ويضم العديد من المكتبات التي تبيع الكتب الجديدة والقديمة، توقفت عند احدى المكتبات، فعرض عليّ صاحب المكتبة - وكان صديقي - ديوان "قالت لي السمراء" وقال لي انه قرأ ذلك الديوان وأعجب به، وقدمه لي هدية، فأخذت الديوان الى البيت وقرأته فأعجبني جداً، لأنني كنت قد قرأت سعيد عقل كاملاً، وصلاح لبكي، والياس أبي شبكة وبخاصة رائعته "أفاعي الفردوس" كما قرأت علي محمود طه وابراهيم ناجي والشابي وسواهم من الشعراء العرب في ذلك الوقت الذين غرقوا في الرومانسية باستثناء الياس أبي شبكة الذي عبّر عن الوجد الوجودي واللاهوتي في ديوانه المذكور. في ذلك الحين، وبعدما قرأت "قالت لي السمراء" شممتُ رائحة دمشق، وقلت لنفسي انه لا يمكن لأي شاعر ان يكتب مثل هذا الديوان، الا اذا كان دمشقياً تنسم ياسمين دمشق، وذاق فاكهة فصولها الأربعة، وأصغى الى أنين نافورات الماء في باحات بيوتها القديمة. وكانت البرجوازية الصغيرة في دمشق طالعة في كل مكان في الأدب والثقافة والترجمة، وفي كل الحقول الاخرى، فجاء هذا الديوان تعبيراً عن صبوة الشاعر في تلك السنوات. وعشية حلف بغداد فُصلت من وظيفتي، فقررت الاقامة في دمشق، وفيها جاءني ذات يوم صديقنا المشترك الدكتور محي الدين صبحي ليخبرني بأن نزاراً يريد زيارتي في بيتي، وكنتُ أسكنُ في حجرة بائسة اكتريتها من عائلة دمشقية فقيرة. وقلت له: لا يليق بنزار ان يزورني وأنا في هذه الحال، فاقترحت عليه ان نلتقي في مقهى، أو في أي مكان يراه مناسباً. وعاد الصديق، من جديد، ليخبرني، اننا سنلتقي في ناد لا اذكر اسمه ونتناول طعام الغداء سوية. وفي ذلك اللقاء أعطاني نزار عنوانه في وزارة الخارجية، وعنوانه الجديد في بكين التي سينتقل اليها ليعمل في سفارة بلاده هناك. ودارت الأيام، وذات يوم، وأنا في فيينا انتهيت من كتابة "قصائد في فيينا" فأرسلتها اليه، لأننا كنا اتفقنا ان أرسل اليه كل ما اكتبه من جديد. وجاءني الجواب يطلب التريث بنشرها لأنها قصائد رائعة جميلة - كما ذكر - ويخشى عليها من سطو الآخرين. وقد نشرت رسالته هذه، ورسالة اخرى في كتاب صدر عن الدار المصرية بالقاهرة بعنوان: "مأساة الانسان المعاصر في شعر عبدالوهاب البياتي". وعندما تقاعد، وترك وظيفته الديبلوماسية، وانشأ دار نشر باسمه، كنت ازوره عندما أكون قادماً من القاهرة الى بيروت، لأنني كنت أقيم في مصر في الستينات. وذات يوم طلب نزار مني ان ينشر لي ديوان شعر جديداً، ولكني أخبرته بأنه ليس لدي من القصائد الكافية لأنشرها في ديوان، وقلت له انني انتهيت من كتاب "تجربتي الشعرية" وكنت احمل مخطوطته معي، فطلبها مني، وقرأ بضعة سطور في الصفحة الأولى، وطواها ووضعها في مكتبته، ووعدني بنشرها في أقرب فرصة، ودفع لي حقوق النشر مقدماً. وبعد ذلك لم أره، ولكنني رأيته من بعيد عندما كان يأتي الى بغداد، خصوصاً الى مهرجانات المربد. أحمد عبد المعطي حجازي: قصيدة نزار جماهيرية محتفظة بأناقتها ماذا اقول عن نزار قباني وهو ملء السمع والبصر، نجم منذ ظهر لم يخفت ضوءه ابدا، بل يزداد كل لحظة تألقا وتوهجا؟ هل اتحدث عن نزار قباني الاخ الاكبر والصديق العزيز؟ ولكن نزار قباني بالنسبة لي شاعر كبير اولا وقبل كل شيء، شاعر كبير بما كتب، ولكنه شاعر كبير ايضا بما اعاد الشعر الى الناس او اعاد الناس الى الشعر، بما ايقظ حاجتهم للقصيدة، وبما قرب القصيدة للناس، وجعلها اكثر دفئا وانسانية، دون ان يكون ذلك على حساب جمالها، فقد ظلت قصيدته الجماهيرية محتفظة بأناقتها ودلالها وفتنتها. وبعض الناس يقيسون شاعرية الشاعر بمدى قدرته على الإغراب والبعد عن الناس، كأنهم يقيسون الشاعرية بمدى فشل الشاعر في ان يكون مقروءاً، لكن ما اسهل الفشل، وما اسهل الاغراب! الموهبة الحقيقية تتجلى قبل كل شيء في ذلك البحث المضني الدؤوب عن الشعر الحقيقي او عن الشعر البسيط، والبساطة هنا معناها الحميمية، معناها البكارة، معناها البداهة ليس هناك ابسط من البداهة، لكن البداهة هي البرهان الاول، البداهة هي العنصر الذي لا ينقسم، والبداهة هي مادة العبقرية، هذه البداهة او هذه البساطة، وهذا الوشي الطبيعي هو صنعة نزار قباني. غدا سيضطر الكثيرون لقراءة نزار قباني من جديد، حتى يكتشفوا ما اقوله عنه الآن. لكن نزار قباني ايضا - كما قلت -اخ اكبر وصديق عزيز، واتذكر حتى الآن لقائي الاول به في القاهرة سنة 1957 في كازينو اوبرا في ميدان الاوبرا، لم اكن نشرت الا بضع قصائد في مجلة "الآداب". وكان هو آنذاك شريكا لسهيل إدريس في دار الآداب، ومسؤولا عن اصدارات دار الآداب الشعرية. في هذا اللقاء قرر ان تصدر لي دار الآداب مجموعتي الاولى "مدينة بلا قلب". لم يحدث مرة واحدة ان جمعتنا مدينة بعد ذلك دون ان نلتقي في بيروتوالقاهرةوبغداد، ولكن لم نلتق في باريس، وكنت أتمنى ان نلتقي هناك خصوصا ان شعر نزار قباني فيه لمحات من شعراء فرنسيين أحبهم كما أحب شعر نزار قباني، مثلا جاك بريفير. منذ كتب نزار ونشر وطوال مسيرته الشعرية حتى الآن فإن شعره كان دائما هو السهل الممتنع، ولقد صنع نزار قباني ما يسعى كل شاعر للوصول اليه، وهو انه حافظ دائما على انتسابه لتراث الشعر العربي وعلى اناقة لغته، وحافظ على صورته كشاعر مثقف، ولكنه قادر في الوقت نفسه على كتابة شعر يغنيه عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة، هذا هو ما يسعى اليه كل الشعراء لكنهم لا يصلون الى ما وصل اليه نزار قباني. الشعراء في الغالب يموتون في سن مبكرة ليس جسديا بالضرورة ولكنهم يكفون عن الاضافة والابداع عند سن معينة، لكن نزار قباني كان مستمراً في الاضافة وفي تجديد نفسه، كأنه يولد كل يوم من جديد، وكأنه هو نفسه موجود، وكذلك صورته هي صورة نزار قباني الشاب، هو الفنان في شبابه باستمرار حتى انا الذي اعرفه جيدا، ظل في نظري وفي خيالي نزار قباني الشاب الذي التقيته منذ 40 عاما. محمد الفيتوري: واحد من البناة العظام لا استطيع ان اتصور الساحة الشعرية خالية من اطلالة هذا الفارس العربي النبيل. انه بالنسبة لي وللكثيرين من ابناء جيلي واحد من البناة العظام الذين اسهموا بفعالية مدهشة في اعادة تصميم المعمار الشعري القديم، بان اضافوا الى القصيدة العربية من وجداناتهم وغيروا من مواقع الجمال والتناسق في تشكيلاتها وبثوا اشعة الحياة في كثير من زواياها ومنحنياتها. من سنوات بعيدة ربما تجاوزت العقود الخمسة وهو يتقدم كتيبة الشعراء المقاتلين من اجل الحب والفرح والحرية من اجل تعميق الاحساس بالجمال والارتفاع بقيمة الانسان. ارفض ان تتجاوز كلمتي هذه حدود التطلع اليه مثلما عرفته دائما عاشقا ومعشوقا ومغنيا لاجمل ما في الحياة من مشاهد ورؤى وتجليات. لا خيالي ولا احساساتي تقبل بغير ذلك. كلمتي هذه مجرد قبلة على جبين الشاعر العظيم الذي كان يرقد في سريره بعيدا عن دمشق التي احبها وعن جماهيره التي نذر حياته من اجلها وعن ملايين العيون والايدي التي تمتد اليه مبللة بالحنين. سعدي يوسف: دارة نزار لم التق نزار قباني إلا مرتين، فصل بينهما ربع قرن من زمن مضطرب، اللقاء الأول كان في البصرة، أما الثاني فكان في المغرب الأوسط، تونس تحديداً، حيث اشتركنا في ربيع القيروان. إلا أن الوشيجة الحميمة التي بدأت مع "قالت لي السمراء" ظلت في عنفوانها الآسر، حتى اليوم. بدا لي نص نزار، في الارتطام الأول، طريفاً مستطرفاً، حتى إذا صدر ديوان قصائد تأكد لي ان الشاعر ادخل نصه المدخل الصعب، وهكذا وضعته في القائمة الأليفة التي اتابعها بحرص وحب وانتباه. كتب نزار قباني كثيراً، وتضخمت مع الزمن أعماله الكاملة، إلا أن ديوان "قصائد" هذا، ظل لدي الاثير، باعتباره الديوان الذي أسس شاعراً. لِم أرى هذا الرأي؟ يستغرق "قصائد" بحثاً عن الشعر وفيه. حين أقول بحثاً عن الشعر، أعني ان نزاراً كان يفتح عينيه واسعتين على العالم، ليختار مادته وزاوية النظر الى هذه المادة، وبتعبير آخر كان نزار قباني يبحث عن الشعر، في ما يمكن أن يغدو شعراً، مميزاً بمهارة بين الركام والجوهر. وتكفي نظرة عجلى على الديوان كي تجعلنا نختفي بالذكاء اللماح في اختيار مواضيع النصوص، وكي نقدر التقدير كله، هذا التنوع المغري في المواضيع، وعلينا ألا نغفل لحظة، فالبشر يتحركون في النص، حركات اديرت ببراعة، الشاعر يشترك مع البشر في جلاء الحياة، حياته وحياتهم، وبالتالي في جلاء النص ونصاعته. انه يحضر فيه الانسان حضوره الملموس المحسوس، والانسان فيه ليس انساناً عاماً، مجرداً، حمال غايات مسبقة، كما سوف نشهد في مراحل متأخرة من سيرورة نزار. قلت ان "قصائد" بحث عن الشعر وفيه. ترى كيف كان البحث في الشعر؟ اعتقد ان نزار في هذا الديوان، كان يحاول محاولاتنا المشتركة للوصول الى النص الشعري. كان نزار يحاول ان يشتغل، على قضايا تتصل بفن الشعر، قضايا مثل التكثيف، والمادة اللغوية، والحياد الفني، وكبح التدفق العاطفي، وابراز اللامألوف في المألوف، الى جانب قضايا أخرى هي من فن الشعر في الصميم. نزار قباني شاعر تحرير. وهنا، أقول انني لا أعني السياسة، بأي حال، فللحديث عن السياسي في شعر نزار شأن آخر. أعني بالتحرير، جانباً سوسيولوجياً، يتصل بظواهر التطور الاجتماعي في المجتمع العربي، وهو تحرير المرأة. كان نزار يتحدث كما يتحدث رجل الى امرأة، ذكر الى انثى. في ما بعد، صار نزار ينطق باسم المرأة، وبلسانها، مستخدماً "ضمير المتكلمة". لم يكن الشعر، قبل نزار، قريباً هذا القرب من المرأة، وما كان معنياً بشؤونها هذه العناية، إلا إذا استثنينا عمر بن أبي ربيعة. غير أن اللواتي يستقبلن شعر نزار لا تمكن مقايستهن بمستقبلات عمر بن ابي ربيعة، فنزار قباني شاعر المرأة المتمردة، بامتياز، لقد استطاع ان يضع ديوانه تحت وسادة كانت خالية. في قاعة بلدية القيروان، رأيت هؤلاء المستقبلات، وبعضهن جئن من الضواحي والبلديات القريبة، رأيتهن من مختلف الاعمار، بين الخامسة عشرة والخامسة والخمسين: واللهفة واحدة، الحرارة واحدة، والاكف المصفقة واحدة. لقد جئن يستمعن الى شاعر التحرير. كتب نزار قباني، مرة، يقول انه سوف يقلع عن كتابة القصائد في السياسة، ليعود الى قصائد المرأة. والحق، ان قولته هذه، كانت لدي مدعاة ابتهاج. وانتظرت، لكن كان علي أن انتظر طويلاً، صريحاً أذكر هنا، ان لدي مآخذي على قصائد نزار في السياسة. من هذه المآخذ، تلك العدمية الصارخة، والاطلاق غير المحسوب، والشتيمة، وانتفاء الجملة الشعرية. أكيد ان المرارة المخلصة وراء هذا كله، لكن الموضوع السياسي، شأنه شأن أي موضوع آخر نتناوله شعرياً، ينبغي أن يتم تناوله ضمن شروط العملية الفنية ذاتها، وعلينا ألا نغدو ضحايا للسياسة في الشعر، كما نحن ضحايا لها في الشأن العام، والدمار الذي سببه التسيّس الأحمق ينبغي ألا يمتد الى الفن، وهذا الملاذ الأخير. هل من مسافة بين الشاعر والمسلي؟ أنا أميل الى تضييق المسافة بين الاثنين، شرط الحفاظ المرهف على أصول العملية الابداعية. هل أسست النزارية مدرسة ذات تأثير وامتداد في تشكيل الوجه الأعمق للشعر العربي الحديث؟ أزعم ان النزارية مدرسة لصيقة بنزار وحده، انها دارة، لا ديار. نحن نحتفي بنزار شاعراً مغيراً ومحرراً. نحتفي به صديقاً، ورفيقاً في رحلة صعبة. انه الفتى الدمشقي الذي رصع قمصاننا بالنجوم، ومنحنا بهجة الأغنية، خوّض في معاركنا غير المتكافئة، ليخرج منها مرفوع الجبين، وعلى مفرقه اكليل الغار. لقد شيد نزار دارته، جاهداً حيناً، لاهباً آخر، راضياً يوماً، غاضباً أياماً، وهو في هذا كله، في الجسارة والمرارة، الشاعر الذي يلعب. تبارك المسعى اذا تبارك الشعر رجاء النقاش : تنوع قصائده مذهل نزار قباني واحد من اكبر شعراء العرب في القرن العشرين. ولو اننا اخترنا قائمة من عشرة شعراء نعتبرهم اهم شعراء العرب في هذا القرن، لكان نزار قباني واحدا منهم. بل انه يحتل مكانة في الصفوف الامامية. ونزار أشبه بالبحيرة التي تصب فيها روافد عدة. منها الرافد الكلاسيكي الذي يحمل الى شعر نزار معجما كاملا اصيلا من الكلمات العربية الصافية والانغام الموسيقية القوية الغزيرة، ومنها الرافد الرومانسي بعذوبته ورقته وعشقه للحياة بكل افراحها واحزانها، ومنها الرافد الواقعي الذي يلتفت الى مشاكل المجتمع ويعبر عنها بلغة عصرية ناضجة. وبالطبع فإن هذه الروافد جميعا تلتقي في مزيج شعري شديد الحيوية والجمال والتأثير. ومن ناحية ثانية فإن رحلة نزار قباني الطويلة مع الشعر التي بلغت ما يقرب من 54 سنة، إذ اصدر ديوانه الاول "قالت الى السمراء" سنة 1944، هذه الرحلة الطويلة تمر على جميع المدارس والمذاهب الفنية مرور الفراشات بالزهور. فأنت تجد في شعر نزار قباني مرحلة كان فيها طائرا حرا يعيش في ظل عقيدة فنية تؤمن بأن "الفن للفن" وليس لشيء آخر وان الفنان حر من اي التزام غير الولاء لموهبته والتعبير عنها كما يشاء، ثم تجد مرحلة اخرى كان فيها نزار ملتزما بافكار اجتماعية يؤمن بها ويدافع عنها، منها تحرير المرأة العربية من قيودها العملية والنفسية، وتحرير عاطفة الحب مما يحيطه بها المجتمع العربي التقليدي من اسوار واشواك تجعل من الحب المعلن الصريح "فضيحة" و"عملا مخالفا للآداب العامة" وتريد من الناس جميعا ان يعيشوا في حظيرة تشبه حظيرة الحيوانات، لان مهمتهم هي التناسل وانجاب الاطفال، ولا شيء غير ذلك. وارتفع نزار بهذا الالتزام الذي فرضه على نفسه باختياره الحر حتى اصبح اكثر الشعراء المعاصرين تعبيرا عن الازمات السياسية التي يمر بها العرب، ومهاجمة للاوضاع العربية المتخلفة من عصور العثمانيين والمماليك والاستعمار الغربي. ولم يعرف العرب شاعرا معاصرا ينتقدهم بعنف ويكويهم بالحديد الساخن الملتهب مثل نزار قباني. فقصائد نزار قباني هي اكثر القصائد المعاصرة - كماً وكيفاً - في هجاء الخمول والتفكك والميل الى الترف والاسترخاء وتدهور فضيلة الشجاعة في الانسان العربي المعاصر، مما أدى الى توالي الهزائم على هذا الانسان وتراكم ازماته ومآزقه وقدرة اعدائه على سحقه في اي صراع. هذا التنوع الفني والفكري في قصائد نزار قباني ظاهرة نادرة من حيث تعدد المراحل والمدارس، ولا يكاد يشبه في هذا المجال شاعرا آخر. فالشعراء العرب، حتى الكبار منهم، يعيشون في ظل مرحلتين على الاكثر من مراحل نموهم الفني والفكري، ولكن نزار استطاع ان يتنقل على اغصان كثيرة في حديقة كبيرة مليئة بالاشجار والازدهار وانغام الطيور المغردة. ونزار قباني منذ ظهوره الاول على ساحة الشعر العربي سنة 1944 يثير الغضب والاعتراض والاختلاف. ذلك لانه شاعر شديد العناد مع التقاليد القديمة الثابتة، وشديد الاستجابة لصوت قلبه وعقله وتجربته الواسعة في الحياة، ولذلك فهو الشاعر العربي الكبير الوحيد الذي تعرض لهجمات من اليمين واليسار، ومن المحافظين والمجددين على السواء. وبقدر ما كان النقاد والباحثون يختلفون حوله كان هناك اتفاق عليه بين ملايين القراء العرب. فالناس يقبلون على اشعاره ويحتفظون بها ويحفظونها دون ان يعبأوا باختلاف النقاد والدارسين. ولعل نزار قباني الشاعر العربي المعاصر الوحيد الذي استطاع ان يكسب من اشعاره، ويعيش حياة كريمة جدا على العائد الذي تحققه. وهو شاعر مؤثر في نفوس العرب المعاصرين. عباس بيضون: من دونه ما كان شاعر ولا كان الشعر احسب ان لكل منا "نزاره" الخاص. اذ يبدو أن اكتشاف نزار قباني جزء من اكتشاف شبابنا نفسه، والأرجح أن "قالت لي السمراء" و"طفولة نهد" و"أنت لي" و"قصائد" كتب وضعتنا فوراً في قلب شبابنا، وبدونها ما كنا لنعرف أن له لغة خاصة، وان لهذا "التوق" و"الموران" اللذين لم يبلغا بعد الرشد مكاناً في الكتابة والتعبير. عمر كتابة نزار بعمر شبابنا، وأحسب أنها هكذا لكل جيل جديد، شيء كالرقصة الأولى، ويندر أن نتذكر هذه القصائد على أنها شعر فحسب. انها قطعة من عمر، وإذا تذكرناها تذكرنا معها أنفسنا، فلا عجب أن يكون في حياة كل منا عهد لنزار قباني. نزار قباني، على هذا، شيء لا يمكن زحزحته من حياتنا بالهين. انه ليس كتاباً فحسب ننساه على الرف أو نرميه خارج المكتبة، بل هو ليس مجرد شعر، فهذه الكتب التي "رُجمت" من الجيل الذي سبقنا واعتبرت دون "الرشد" و"النضج"، قرأناها نحن على أنها أخف من أن تكون جزلة، وأكثر حرية من أن تكون عصماء، وأقل وقاراً من أن تكون جليلة مأثورة. قرأناها على أنها ليست تماماً من "الديوان"، وليس لها مثال صريح في أدبنا، ولا تذكر بالفحول وقد تذكر بشعراء أدنى في طبقات الصوت وطبقات الشعراء، وهي تذكر بأشياء غير الشعر: بالزخارف الشامية وحدائق البيوت المسورة والفسقيات في الداخل وشوارع المدن وليالي النيون والأقمشة الجميلة والعطور والملاهي، وقد تكون هذه الأشياء أعلق بها من الشعر. وباختصار، كانت هذه الأشعار قريبة دانية، يستطيع القارئ أن يستعيرها وأن يعدها من خصوصياته ويدرجها في كلامه. كانت خفيفة حرة نضرة لاعبة. بلا نقل ولا مثال رجولي. أشعار فيها شيء من انوثة، من غندرة، من أناقة واتيكيت وترف ومن اعتراف ويومية وعامية، ومن شباب وشوارع وحانات وأرصفة ودرابزينات وسلالم، ومن روائح تدخين وشراب وعطور، من حذر ورغبة... أي من مدينة وحاضر. ليست هذه شهادة بالطبع ولا تقويماً، فنزار قباني، الذي يبدو شعره رسالة جيل وغناء حقبة، هو بالتأكيد من أركان ثقافة كاملة، من أركان عصر. انه مع عبدالحليم حافظ وعبدالناصر وأم كلثوم أوتاد عصرنا، ثم انه موجود في حياة كل منا على نحو ظاهر أو خفي، إلا أنه وجود لا ريب فيه. نزار موجود في سيرنا الخاصة والجماعية في آن معاً. ولا يشك شاعر أنه من دونه ما كان، ولا كان الشعر، ولا كانت اللغة، ما هم عليه اليوم.