«معضلات رجل مستقيم» هو عنوان الكتاب الذي ترجم حياة العالم الالماني الشهير ماكس بلانك الذي ولد عام 1858 في كيل التي كانت جزءا من الدنمارك انذاك، الا ان بسمارك موحد المانيا ضم المدينة إلى بروسيا. نشأ ماكس بلانك نشأة دينية بتشجيع من والده استاذ القانون في مدرسة ميونيخ، وهي المدرسة التي درس فيها لفترة اثناء تكوينه العلمي كان خلالها محط احترام وإعجاب اساتذته الذين وصفوه بانه مرح وموهوب في كل المواضيع ولا سيما في الرياضيات، وقد احتار بين دراسة الآداب والموسيقى والفيزياء، ولكنه اختار دراسة الفيزياء رغم ان احد الفيزيائيين الرواد نصحه بالابتعاد عن دراسة الفيزياء لانه لم يبق في العمل اي شيء ذي شأن للاكتشاف. ويبدو ان ماكس بلانك قد تأثر بالنصيحة، لكنه تمرد عليها عندما تجاوز الاربعين من عمره، وعندها كان على موعد مع اكتشافه العظيم الذي صنع عهداً جديداً للفيزياء في عام 1900، حيث شرح علاقة التأثير المتبادل بين الاشعاع والمادة، واكد بلانك ان الطاقة المباحة للهزازات لم تكن مستمرة وانما هي مكونة من عدد محدد من اجزاء محدودة متساوية او من عناصر طاقة، وقد اطلق بلانك على هذه العناصر كموم «كم» الفعل الذي سرعان ما اصبح يعرف باسم ثابت بلانك. والواقع ان مفهوم هذا الثابت ثوري لدرجة انه ما من احد حتى ولا بلانك نفسه ادرك مباشرة ما سينتج عنه، ولكن رجلاً آخر ادرك ذلك بعد سنوات قليلة، وكان ذلك الرجل هو العبقري اينشتاين. لقد اصر بلانك على واقعية الذرات التي لم يسبق لاحد ان رآها، وعلى ان للثوابت الفيزيائية التي استمدت من قوانين الحرارة شرعية كونية، وهذا الموقف جعل بلانك هدفا لهجوم الوضعيين الذين يؤمنون بأن العلوم يجب ان تدرس الحقائق الطبيعية وانساقها، ولا مجال لدراسة شيء لا يمكن مشاهدته مباشرة، وبالمقابل تحول ماكس بلانك المسالم الودود الى مقاتل شرس، فقد رد بحدة على منتقديه، واشار الى واقعية العالم غير المرئي الذي انبثق من عمله الرياضي. لكن اقوى دفاع عن ماكس بلانك جاء من خلال بحوث اينشتاين عن الضوء التي اكدت نظرية ماكس بلانك. والمدهش ان ماكس بلانك واينشتاين قد اثر كل منهما في الآخر، ونمت بينهما علاقة مودة وصداقة نبيلة، فرغم ان اينشتاين كشف امورا جديدة مهمة اضافت الكثير لنظرية ماكس بلانك الا ان الاخير لم يخش طغيان شخصية اينشتاين او يغار منه، بل على العكس حاول مساعدته، فاستحدث لاينشتاين منصب الاستاذ الباحث المتحرر من جميع الواجبات، وقد اثرت هذه المبادرة في شخصية اينشتاين الذي كان معجبا بماكس بلانك حتى انه كتب فيما بعد ان افضل ذكرياته عن برلين كانت شعوره الدائم بالبهجة لكونه بالقرب من بلانك. على ان صداقة اينشتاين وبلانك كانت مدعاة للتساؤل والتعجب، فآراء الاثنين في قضايا السياسة والفكر والمجتمع كانت متعارضة، ربما لأن الأول كان ابن رجل اعمال يهودي، بينما كان بلانك ابن استاذ جامعي متدين وراع لأبرشية بروتستانتية، كذلك فإن ماكس بلانك تورط في التعصب القومي الالماني في بداية الحرب العالمية الأولى، بينما تعرض اينشتاين للتعصب والاضطهاد في المانيا قبل واثناء الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1933 تسلم هتلر السلطة، بينما كان بلانك عميدا للعلم الالماني وامين سر اكاديمية العلوم البروسية ورئيس جمعية القيصر ولهلم للعلوم، وفي مناخ العداء لليهود تم ابعاد العلماء اليهود من الجامعات ومراكز البحوث الالمانية، وحاول بلانك التوسط لعودتهم دون جدوى، في الوقت نفسه رفض اينشتاين العودة من الولاياتالمتحدة واعلن انه لن يعود لالمانيا التي اصبحت لا تحترم الحرية المدنية والتسامح والمساواة بين المواطنين امام القانون، وقد اغضب هذا الموقف ماكس بلانك الذي كان يعتقد ان اينشتاين لكونه المانيا عليه الوقوف الى جانب بلده في الخارج مهما كانت اخطاء نظامها الجديد. ورغم هذا الخلاف وضغوط النازية ظل ماكس بلانك يعترف ويعتز بانجازات اينشتاين العلمية، وفي الوقت نفسه حاول ماكس بلانك خدمة المجهود الحربي الالماني.. الى ان انتهى نهاية مأسوية، اذ قتل ابنه البكر كارل في الحرب، كما ماتت ابنتاه لدى وضع كل منهما ولدها الاول، ولم يبق له من اولاده سوى ارون الذي كان له ايضا اقرب صديق، ولكن بعد الاعتداء على حياة هتلر في يوليو 1944 سجن ارون، وعاش الاب اياما صعبة، ممزقا بين الامل واليأس، الى ان تلقى خبرا حطمه بان محكمة الشعب قد حكمت على ارون بالاعدام، وعندئذ كتب بلانك الى هتلر وهملر يؤكد لهما ان ابنه لم يكن لديه علم بالمؤامرة ضد حياة هتلر، وفي اوائل فبراير 1945 اخبر بتأجيل وشيك لتنفيذ الحكم، ولكن ارون شنق بعد خمسة ايام!!