بما أن الفروق الذاتية في الأشخاص والزمان والمكان وبعض الأحوال شرط ضروري لتحويل المأثور الواقعي أو الأسطوري إلى عمل فني: فإن العبرة حينئذٍ بأوجه اللقاء لا بالفروق الذاتية، وهذا ما تكفلت به المقارنة الدقيقة الرائدة بين أسطورة ديك الجن ومسرحية عطيل للدكتور نسيب نشاوي، وأكتفي ها هنا بنصوص من عطيل مطابقة لكل ما أسلفته من سياق عن قصة ديك الجن وما ارتبط بها من شعر.. إن إياغو يقابل الواشي الذي حرَّض ديك الجن على الجارية.. يقول إياغو لعطيل :«انتبه إلى زوجتك.. لاحظها جيداً مع كاسيو، واجعل عينيك هكذا: لا غيوراً، ولا واثقاً.. لن أرضى لك بطبعك النبيل السمح أن تُخدع.. لطيبة ذاتك انتبه.. إني أعرف طرائق بلدنا حق المعرفة: فالنساء في البندقية يسمحن للسماء أن ترى الألاعيب التي لا يجسرن على أن يُرِينها أزواجهن.. خير الضمير عندهن: لا أن يحجمن عن فعل الشيء، بل ان يبقينه مجهولا»(1). وزوجة عطيل المتهمة هي دزديمونه، وقد اختلق إياغو دليل التهمة على نحو مافعله ابن عم ديك الجن الواشي.. لقد حصل إياغو على منديل دزديمونه عن طريق زوجته، ورماه في غرفة كاسيو؛ ثم دفع الأخير إلى زيارة دزديمونه في بيتها، كي تتوسط له لدى عطيل من أجل إعادته إلى وظيفته.. ثم راح يؤكد أن دزديمونه تبادل كاسيو الحب، وأنها تنوي الزواج منه.. (2) وراح إياغو يُذكِّر عطيلاً بمنديله الذي كان أول هدية يقدمها إلى دزديمونه»(3). ويزعم إياغو: أنه حالما يرى كاسيو خارجاً من بيت دزديمونه عندما يذهب لطلب الوساطة منها: يقول لعطيل: لا أستطيع تصور ذلك.. أيخرج متسللاً كمجرم حالما يراك قادماً؟!!.. ولكي يؤكد إياغو خيانة دزديمونه المزعومة فإنه يستدرج كاسيو إلى القصر، ويهمس في أذنه بسؤال عن حبيبته التعسة بيانكا، وعطيل متخفٍّ خلف الستارة في الغرفة نفسها.. وبذلك يُحدث إياغو تغييراً في المواقف، فيظن عطيل أن الحوار الجاري بينهما إنما يدور حول دزديمونه.. بينما هو في الواقع يدور حول بيانكا!! (4). ثم نجد الحوار بين عطيل وزوجته حول دليل التهمة على هذا النحو: «عطيل: فكري بخطاياك.. دزديمونه: إنه الحب الذي أكنه لك.. عطيل: نعم، ومن أجل ذلك ستموتين.. دزديمونه: إنه لموت شاذ ذاك الذي يقتل بسبب الحب.. وا احسرتاه، لماذا تعض هكذا شفتك السفلى!؟.. عطيل: ذلك المنديل الذي كنت أحبه جداً، وأعطيتك إياه: أعطيته أنت لكاسيو.. دزديمونه: أبداً قسماً بحياتي وروحي(5) ارسل في طلب الرجل واسأله.. عطيل: يجب أن تموتي.. رأيت منديلي في يده!.. دزديمونه: إذن فهو قد عثر عليه.. أما أنا فما أعطيته إياه قط.. ارسل في طلبه، وليعترف بالحقيقة.. عطيل: لقد اعترف.. دزديمونه: بماذا يا مولاي؟.. عطيل: بأنه واصلك.. دزديمونه: كيف.. أحراماً؟.. عطيل: نعم.. دزديمونه: لن يقول ذلك.. عطيل: لا؛ لأن فاه قد سُدَّ.. إياغو الأمين قد دبر ذلك.. دزديمونه: يا ويلي!!.. خانوه ودمروني.. عطيل: ابعدي يا عاهرة.. أتبكين عليه أمام وجهي؟.. وفي هذه اللحظة يهجم عطيل عليها ويخنقها»(6). وبعد القتل يكون هذا المشهد: «زوجتي.. زوجتي.. أية زوجة.. لا زوجة لي؟!.. آه لا يطاق!!.. يا للساعة الثقيلة!!.. لأحسب أن الشمس والقمر ينبغي لهما أن يخسفا الآن.. وتدخل هنا إميليا زوجة إياغو، فتروعها الجريمة، وتُعلمُ عطيلاً بكذب إياغو بالأدلة؛ فتقع المأساة المسرحية الثانية أمام أعيانٍ من البندقية الذين أحاطوا بعطيل؛ فيقول لهم كلاماً قريباً مما قاله ديك الجن ساعتئذ: مهلاً.. كلمة أو اثنتين قبل أن تذهبوا.. لقد أديت للدولة بعض الخدمات، وهم على علم بها، فلا حاجة لقول المزيد منها.. إني لأرجوكم في رسائلكم عندما تروون وقائع الشؤم هذه أن تتحدثوا عني كما أنا.. لا تلطِّفوا شيئا، ولا تُدوِّنوا شيئاً بضغينة.. عليكم عندها أن تتحدثوا عن رجل لم يعقل في حبه، ولكنه أسرف فيه.. رجل ليس حاضر الريبة، ولكنه إذا أثير وقع في أشد التخبط.. رجل رمى عنه بيده كهندي غني جاهل لؤلؤة أثمن من عشيرته كلها.. رجل إذا انفعل درَّت عينه (وإن لم يكن الذرف من دأبها) دموعاً سراعاً كما تدر أشجار العرب صمغها الشافي.. هذا دوَّنوه، وقولوا أيضاً: إنني ذات مرة في حلب حيث هوى تركي شرير معمم على بندقي بالضرب وأهان الدولة، أمسكت بالكلب من عنقه وضربته.. هكذا (يطعن نفسه، ويخاطب جثمان دزديمونه).. قبل أن أقتلك قبَّلتك، وما من سبيل آخر.. قتلت نفسي، لأموت على قُبْلتك.. يقع على الفراش، ويموت»(7). قال أبو عبدالرحمن: هذه أوجُهٌ من اللقاء كافية في تحصيل اليقين بأن أصل مسرحية عطيل أسطورة عربية.. ومع أن الأستاذ فؤاد عبدالمطلب استعرض كل ما اختصرته من سياق الدكتور نسيب: فإنه انتهى إلى رأي مائع، وذلك قوله:«والخلاصة أن البحث في هذه القضية مازال مفتوحاً أمام الباحثين المقارنين، وحسبي في هذه العجالة أني أثرت هذا الموضوع، وأشرت إلى بعض مفاتيحه الأساسية»(8). قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم له مستنداً في هذا الحكم المائع سوى أمرين: أولهما: ما أسلفته من قوله : «وفي مسرحية عطيل ليس هناك ما يدل على محاكاة أو أسلبة أو اقتراض واضح من قصة ديك الجن». وثانيهما: ما أسلفته من زعمه بأن المقارنة بين الأسطورة العربية ومسرحية شكسبير إنما يقوم على الاستقصاء لمصدر المسرحية العربي عن طريق الترجمة؛ وعلى هذا إذا لم يُوجد برهان تاريخي على أن النص العربي لم يترجم إلى لغات أوروبا: لم يثبت الأخذ على الرغم من كل أوجه اللقاء.. وهذا ما صرح به بقوله: «وتكاد تجمع مصادر النقد الأدبي والمسرحي الإنجليزي المكتوب عن مسرحية عطيل على أن شكسبير كعادته في اقتراض موضوعات مسرحياته قد استمد قصة عطيل من مجموعة قصصية إيطالية عنوانها (هيكاتوميثي) أي مئة حكاية للكاتب الإيطالي جيرالدي تشنيتو، ولم يستمدها من قصةحياة ديك الجن الحمصي، فقد نُشر هذا الكتاب في البندقية عام 1566م وترجمه إلى الفرنسية غبرييل تشابيس عام 1584م.. ومن المحتمل أن شكسبير قد عرف القصة من الكتاب الأصل، أو من خلال ترجمته بالفرنسية؛ إذ انه لم توجد ترجمة إنجليزية لهذا الكتاب قبل عام 1753م»(9). وعندما استدل الدكتور نسيب بإمكان اطلاع شكسبير على حياة ديك الجن من خلال المصادر اللاتينية التي نقلت الآداب العربية إلى أوروبا: عارضه بأن هذا النقل يحتاج إثباته إلى تحديد خاص أو عام، ثم علق بقوله: «والحق أن هذه القضية تظل رهن البحث والتقصي.. إن مصدر مادة عطيل شكسبير معروف في النقد الأدبي والمسرحي الإنجليزي، وهو ثابت علمياً.. والذي يجب النظر فيه عموماً هو كيفية انتقال كتب التراث العربي وما تحويه من كنوز أدبية عن طريق الترجمة وغيرها إلى أوروبا.. وعبر جزيرة صقلية والأندلس، والحرب مع الفرنجة، والأتراك العثمانيين.. إن الإجابة الأكثر تحديداً يجب أن تكون عن السؤال: كيف وصلت أخبار ديك الجن إلى الوسط الإيطالي، وكيف وصلت إلى فيلسوف فيرارا الارستقراطي، والكاتب الإيطالي تشنيتو؟.. يقول خالدوف أحد الباحثين في كتاب الأغاني: وقد أعار المستعربون الأوروبيون منذ أمد بعيد الاهتمام بكتاب الأغاني.. و هم يستخدمونه، و يفيدون منه؛ لكونه كنزاً للمعلومات اللغوية والأدبية والتاريخية.. لم يُترجم كتاب الأغاني بعدُ إلى أية لغة من اللغات الأوروبية.. باستثناء بعض المقتطفات المقتبسة، والأحاديث المنقولة والمروية.. إن هذه المقتطفات والأحاديث من هذا الكتاب تحديداً، وغيره من كتب التراث العربي، وعبورها إلى أوروبا، وتأثيرها في المدونات الأدبية المختلفة هناك: لاتزال مجالاً خصباً لدراسة العلاقة بين الأعمال التي نتحدث عنها وغيرها من الروائع الأدبية. وفيما يتعلق بالحكاية الإيطالية فإننا نجد فيها الشخصيات الرئيسة التي وضعها شكسبير في مسرحيته كلها عدا الدوق، وغراتيانو، ونبلاء البندقية الآخرين ومونتانو وردريغو.. لكن الشخصية الوحيدة التي لها اسم معين في الحكاية هي دزديمونه (والاسم مشتق من كلمتين إغريقيتين تعنيان معاً الروح الشقية ill Fateud Soul).. أما عطيل فَيُدْعَى المغربي Moro، وإياغو يدعى حامل العلم، وكاسيو يُدعى رئيس الفيلق، وإيميليا تدعى الحسناء الفاضلة زوجة حامل العلم.. وهكذا دواليك؛ فالأسماء كلها عدا دزديمونه هي من وضع شكسبير بما في ذلك اسم البطل، وأحداث الفصل الأول من المسرحية كاملاً من ابداع شكسبير.. وقد كتب تشنيتو قصته على الطريقة السردية القديمة التي قلما تجعل من الحوار طريقاً إلى تصوير النوازع الداخلية للشخصيات؛ ومن الطبيعي أن تخلو قصة تشنيتو وأسلوبه السردي من رهافة التحليل والتركيب، فالمغربي عنده مجرد رجل شجاع طيب، ولكنه ساذج لا يحتاج حامل العلم إلى دهاء للتغرير به.. ولانرى فيه ذلك التناقض الرمزي الذي صنعه شكسبير بين سواد الوجه وبياض القلب كمقابل (10) لوجوه بيضاء لا تخفي وراءها إلا قلوباً سوداء.. وحامل العلم في الحكاية ليس أكثر من نذل ينتمي إلى المدرسة الإيطالية المعروفة بهذا النوع من الشخصيات الشريرة.. أما إياغو فهو كعطيل: إبداع من إبداعات شكسبير الرائعة»(11). قال أبو عبدالرحمن هاهنا وقفات: الوقفة الأولى: أن أوجه اللقاء لم تغادر شاردة ولا واردة من مقوِّمات الأسطورة العربية شعراً ونثراً، كما أن أوجه الافتراق أبعدت ذاتية الأعيان أشخاصاً وزماناً ومكاناً وصفات غير مؤثرة، وأبقت صفات متخيلة تحقق مقومات الحدث الأسطوري العربي.. وليس هذا النسج للحدث شعراً و نثراً وإن كان قابلاً لأن يكون من المشترك الإنساني مشاهدةً مما يحصل بوقْع الخاطر على الخاطر كما يقع الحافر على الحافر، لأنه تخيُّلُ حدثٍ لا وقوعَ حدثٍ.. وهو تخيُّلٌ احتاج إلى عناصر خيالية عديدة، وحبكة أسطورية مركبة شعراً ونثراً، ولا يلتقي الخاطر على هذا؛ فهذا من الحديث الطويل الذي لا يمكن اتفاق خاطر اثنين على توليد مثله كما قال الإمام أبو محمد ابن حزم (12) رحمه الله تعالى.. قال أبو محمد: «ولو أنك تكلف إنساناً واحداً اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه.. يُعلم ذلك بضرورة المشاهدة، فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان، وكلفتَ كل واحد منهما توليد حديث كاذب: لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره.. هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلاً.. وقد يقع في الندرة (التي لم نكد نُشاهدها) اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة، والكلمتين نحو ذلك.. والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت (13).. شاهدنا ذلك مرتين في عمرنا فقط، وأخبرني من لا أثق به: أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد.. ولست أعلم ذلك صحيحاً، وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة، بل في بيتين فصاعداً.. والشعر نوع من أنواع الكلام، ولكل كلام تأليف ما.. والذي ذكره المتكلمون في الأشعار (من الفصل الذي سموه المواردة، وذكروا أن خواطرَ شعراءَ اتفقت في عدة أبيات): فأحاديث مفتعلة: لا تصح أصلاً، ولا تتصل، وما هي إلا سرقات وغارات من بعض الشعراء على بعض!!»(14). قال أبو عبدالرحمن: يريد اللقاء اللفظي.. أما المعاني فيحدث في المشترك الإنساني كالمشاهدة العادية، والثقافة المشتركة(15).. وأنا أريد ها هنا امتناع اللقاء المعنوي أيضاً من كل الوجوه في خبر طويل نادر الوقوع، وهو مصحوب بصياغة أدبية شعراً ونثراً.. واللقاء بين شكسبير والمأثور العربي لقاء كامل كما أسلفت. الوقفة الثانية: بناء على ما سبق: فإن هذا اللقاء المعنوي المطلق دليل على أن مصدر شكسبير المباشر ذو أصل عربي فيما يتعلق بعطيل.. والجهد الذي سيُبذل لمعرفة بداية الترجمة الأجنبية للآثار العربية فإنما الغرض منه بيان سبب اللقاء، والتاريخ له، وليس الغرض منه إثبات اللقاء المتعمَّد؛ فذلك اللقاء المطلق دليل نفسه. الوقفة الثالثة: التعبير بالأسلبة بعد إثبات صحتها الصرفية لغة ، والاقتراض والمحاكاة: ليس إحالة إلى مصطلحات معروفة في الأدب المقارن محددة بدقة كتحديد التراث لأنواع السرقات الأدبية بمصطلحات عديدة؛ فما علينا إذن إلا التعلق بالمعنى اللغوي؛ ومن ثمَّ لا نرى في عمل شكسبير سلباً بإطلاق، لأنه لم يأخذ عناصره الفنية وإن أخذ مقومات الحدث الفكرية والحسية ، وإنما السلب في أخذه الحدث بمقوماته ثم تحويره فنياً إن كان قاصداً إخفاء تأثره، فيكون ذلك من باب السرقات.. وأما المحاكاة فالأمر أكبر منها من جهة مقوِّمات الحدث على نحو ما سبق تفصيله عن السلب تماماً تماماً..مع أن للمحاكاة في الأدب معنى اصطلاحياً غير ذلك.. والاقتراض لا معنى له إلا في جزئيات بعد التأكد من أن اللاحق أَخَذَها عمداً غير قاصد الإخفاء.. على أن الاقتباس والتضمين هو التعبير المناسب، وأما الاقتراض فيكون في اللغة عندما يُنقل اللفظ بمعناه إلى لغة أخرى. الوقفة الرابعة: إذا لم يثبت أن شكسبير تعمد إخفاء مصدره، فعمله معارضةٌ وليس أَخْذاً.. وليس إدلاله بعناصر مقومات الحدث الأسطوري الساذج وما صاحبه من شعر ضعيف المستوى، وإنما إدلاله بالعمل الفني الرائع الذي حوَّل به سذاجة المأثور إلى إبداع فني عالمي رائع. الوقفة الخامسة: لا معنى لقول الأستاذ:«إن المقارنة لا تكون إلا بالاستقصاء لمصدر عطيل عن طريق الترجمة»؛ فهذا إحالة من المحال بمعنى الممتنع لما هو واقع مشاهد، بل المقارنة حضور ماثل بين نصين موجودين بين أيدينا: هما المأثور العربي الأسطوري، والمأثور المسرحي الشكسبيري.. والبحث عن وجود الترجمة ذو غرض آخر كما أسلفت، وهو تفسير سبب اللقاء. الوقفة السادسة: من الأحكام الصارخة بالتنصل من المسؤولية، واحترام عقل القارئ: الحكم بأنه لا أسلبة ولا محاكاة.. إلخ.. يقول هذا وهو يشرف على هذا اللقاء المعنوي المطلق؛ فهل في التناقض أكثر من هذا؟!. الوقفة السابعة: الإجماع على أن مئة حكاية (هيكانوميثي) للكاتب الإيطالي جيرالدي تشنيتو: إنما يعني أن ذلك مصدر شكسبير المباشر، ولا يعني أنه ليس من المئة حكاية حكايات عربية. الوقفة الثامنة: إن تقصي الأستاذ فؤاد عبدالمطلب بداية ترجمة التراث العربي الى أوروبا، أو إهابته بالباحثين إلى ذلك: عمل مشكور، وجهد في ريادة مجهول.. إلا أن استحالة أو تأخر الكشف عن بداية الترجمة: لا يعني أن الأسطورة العربية لم تصل إلى الغرب؛ لأن البحث عن الترجمة إنما يؤتي ثماره في نشاط الترجمة الجماعي كدلالة ظاهرة الرشدية اللاتينية على أن فكر ابن رشد عُرِف في أوروبا بالواسطة (16) وبالترجمة المباشرة.. ويؤتي ثماره في أعمال الترجمة الفردية حينما توجد هذه الظاهرة عند فرد متميز بالترجمة احترافاً.. أما تواصل الفكر العالمي والأدب العالمي إذا لم توجد ظاهرة الترجمة أفرادا أو بمؤسسات علمية : فيكون بالقراءة من قارئ يجيد العربية مع لغته، أو بنقله عن سائح من بني جلدته يجيد العربية.. على أن العمل الأسطوري تَرِثُه أمة عن أمة بالنقل الشفهي محوَّراً وغير محور؛ فتكون الأسطورة العربية التي رُكِّبت على ديك الجن وصلت شفهياً غير محوَّرة.. وليس من الضروري أن يكون النقل عن ديك الجن مباشرة؛ فمثل هذه الأسطورة سواء نُسبت إلى ديك الجن، أو إلى من قبله : تتوارثها ذاكرة الدهماء والعامة، ولا يهمها تحقيق اسم بطل الأسطورة؛ فتفد على الأمم الأخرى بالنقل الشفهي؛ ولهذا عبَّر عنها جيرالدي بأنها حكاية، وأكثر سبل نقل الحكايات التوارث الشفهي.. وبإيجاز فمن الممكن تحديد تاريخ الترجمة لدى أمة برجحان.. أما تحديد أول قارئ للغة أخرى من بني الأمة فأمر متعذر وليس متعسراً فحسب. الوقفة التاسعة: كون عطيل أو أي شخصية في المسرحية من إبداع شكسبير الرائع: لا يعني أن الروعة في مجرد التسمية، وإنما يعني ذلك هُوِيَّةَ البطل في الثقل الفكري والأداء الفني؛ فالإبداع حقيقة ليس هو نُطْق عين وطاء وياء ولام، بل هو الشخصية الأدبية فكراً وفناً فيما يقوله أو يعمله ذلك البطل بشرط الأداء الفني في تقنية المسرح.. ويُستثنى من ذلك عناصر مقومات الحدث؛ فذلك تلقَّاه شكسبير عن جيرالدي، وتلقاه الآخر عن المأثور العربي. الوقفة العاشرة: أختم بتأكيد اللقاء المتعمَّد بهذه المقارنة التي لم تغب عن بال الأستاذ فؤاد عبدالمطلب؛ لأنه نقلها بأمانة.. قال:«إن المقارنة أو الموازنة بين الحدث الدرامي في سيرة ديك الجن وسيرة عطيل تستدعي النظر في مراحل متماثلة مرت بها تجربة ديك الجن مع ورد، وتجربة عطيل مع دزديمونه في أربع مراحل واضحة.. هذه المراحل كل مترابط ومتكامل في التجربتين معاً، لكن الفصل بين هذه المراحل وترتيبها إنما هو فصل نظري يساعد على الدراسة والتحليل (17): أولاً: لقاء ديك الجن بورد وزواجه بها الذي يماثل معرفة عطيل دزديمونه وزواجه بها، فورد ودزديمونه تنتميان معاً إلى بيئتين مختلفتين. ثانياً: مرحلة الشك بكلتا المرأتين بعد عيشة هانئة، وحب صادق. ثالثاً: انتهاء الشك بثورة الغضب والقتل. رابعاً: استفاقة الديك وعطيل من ثورة الغضب وظهور الحقيقة (18). قال أبو عبدالرحمن: لا يعني كون الفصل نظرياً: أن صحة اللقاء المتعمَّد تحتاج إلى دليل من خارج.. وإنما يعني بالفصل المفارقة الذاتية التي أسلفتها في الأسطورة والمسرحية، وأنه نظري لا يغيِّر من جوهر الأخذ الصحيح؛ فلعل الأستاذ فؤاد فهم نص جبرا إبراهيم فهماً خاطئاً. *** الحواشي: (1) مجلة الفيصل العدد 292 ص 28/ بحث «ديك الجن الحمصي وعطيل شكسبير/ نظرة مقارنة» للأستاذ فؤاد عبدالمطلب من حمص. (2) قال أبو عبدالرحمن: وتفيد هذه العلامة أيضاً استئناف متعاطفات جديدة، والانقطاع عن متعاطفات سابقة. (3) المصدر السابق. (4) المصدر السابق. (5) قال أبو عبدالرحمن: القسم بغير الله محرم، والمقسِم نصراني، وليس بعد الكفر ذنب.. على أن بعض المنتسبين لأهل القبلة يقع في هذه الخطيئة. (6) المصدر السابق ص 29. (7) المصدر السابق. (8) المصدر السابق ص 30. (9) المصدر السابق ص 26. (10) الصواب بصفته مقابلاً.. لأن المراد الوصف المطابق، لا التشبيه المقارب. (11) المصدر السابق ص 26 عن : معجم شكسبير لساندرا كلارك، وعطيل دراسة غاميني سالاد غاو وزميله وكلاهما بالإنجليزي ، ومقدمة جبرا للمآسي الكبرى، ومقدمة خليل مطران لعطيل. (12) انظر: الإحكام في أصول الأحكام 1/105/ دار الكتب العلمية ببيروت وهي مشهورة بالسطوِ على طبعات الكتب، وإسقاط حواشي المحققين، وإحداث حواش عديمة الجدوى.. ومن البدهي أن يسقطوا الإفادة عن أصولهم في التحقيق؛ لأنه لا أصول لهم إلا جهد الآخرين . (13) قال أبو عبدالرحمن: الشعر يحصر الكلام في نصف بيتٍ مثلاً بوزنه وقافيته وسياقه؛ فيوجد الاتفاق مع الندرة. (14) المصدر السابق 1/105. (15) قال أبو عبدالرحمن: أحكمت أصول ذلك في كتابي «مجموعة الأعمال الكاملة للآداب العامية، والفنون الشعبية» عندما تطرقت للمقارنة بين أدب العامة وأدب الفصحاء. (16) مثل الاطلاع على كتب موسى بن ميمون اليهودي وهو مُجيدٌ للعربية والعبرية واللاتينية. (17) عن مقدمة جبرا للمآسي الكبرى. (18) مجلة الفيصل (المصدر السابق أول هذه الحواشي ) ص 26 27.