لقد كانت الحال فيما سبق متواضعة في مجال الإبداع النقدي، ولم يكن التواصل مع المشهد الأدبي العربي عامة والمصري بالذات قادراً على إحداث تغيير جذري في مجال السرد القصصي بقدر ما أحدثه في مجال الشعر، وما إن استهلت المرحلة الثانية عام 1959م حتى جاءت الأمور مغايرة كل المغايرة، هذا التأريخ لايتردد المطلعون على مستوى السرديات في جعله بداية مهمة للتاريخ الأدبي للرواية والقصة معا، بل للحركة الأدبية عامة، ذلك أن البلاد اطمأنت لثبات الاستقرار والرخاء واستثمرت ذلك كأحسن ما يكون الاستثمار وبدأت الحركة العلمية تؤتي ثمارها حيث اتسع التواصل وتعددت قنواته، وفيما يخص الرصد والوصف للحركة الروائية والقصصية، فقد صدرت رواية «ثمن التضحية» للروائي حامد دمنهوري. وكان صدورها بمثابة التأسيس بعد الريادة، والمسافة الفنية بين الريادة والتأسيس غير متوقعة إذ لم تكن الرواية ممثلة لنمو طبيعي، ومن ثم جاءت قفزة بعيدة وكان مجيئها مؤذنا بتلاحق أعمال جيدة لمبدعين على جانب من الوعي والثقافة والموهبة والتجارب، ومرد ذلك ما أفاء الله به على البلاد من استقرار وثراء استتبع التوسع الملحوظ في التعليم، كما أدى إلى تواصل وثيق مع الأقطار العربية عبر الاستقدام والابتعاث. وحين مكّن الله للملك عبدالعزيز، جعل ذروة مشروعة التكويني اعلان اسم «المملكة العربية السعودية» عام 1351ه، ثم البدء بمرحلة البناء مع ما هناك من معوقات اقتصادية وعلمية واجتماعية، تم مشروع الملك التعليمي والتثقيفي عبر قنوات متعددة، تمثلت باستقدام المعلمين وابتعاث الطلبة للدراسة في مصر، وتأسيس المكتبات العامة والخاصة وجلب الكتب، وتعميم المطابع، وتعدد دور النشر، والانفتاح على الآخر، ووضع العمل الصحفي بيد الأدباء المتمرسين من بلاد الشام، ممن فروا من ديارهم، وجاوروا في الديار المقدسة، بدافع سياسي أو ديني، وإذا كان نصارى الشام الذين هاجروا إلى الأمريكتين أنشؤوا الأدب المهجري فإن مسلمي الشام الذين فروا إلى الحجاز أنشؤوا الصحافة بكل طوابعها العلمية والأدبية وأبدعوا الشعر وساعدوا على انطلاقة أدبية، وساعد ذلك إحساس الدولة ومؤسساتها المعنية بضرورة اللحاق بركب الثقافة والأدب في الوطن العربي الذي سبق الحركة الأدبية في البلاد بمسافات طويلة، والراصدون للتاريخ الأدبي في البلاد يدركون حجم هذا التحرف، ويثمنون نتائجه. وإذ يهمنا تعقب المنجز الروائي والقصصي وما يلحق بهما من فن السيرة الذاتية وأدب الرحلات في تلك الفترة، فلابد أن نشير إلى قوة البداية في تلك المرحلة التالية للريادة المتواضعة، وإلى كثرة الأداء ونضوجه، وإقبال العامة، وقبولهم للفن السردي، ومستلزماته وتنوعاته، ومما لاشك فيه، أن هناك مسافة فنية وكمية بين البداية الرائدة المتواضعة وتلك المرحلة المتميزة التي لايمكن أن توصف بالتطور الطبيعي، إذ تمثل قفزة نوعية وكمية ظاهرة الجودة والاتقان، لما أشرنا إليه من أسباب، مع إصرار الأدباء على تعميق التواصل مع أدباء الأقطار العربية، ومبدعيها وهذا بلاشك اختصر الجهد والزمن معاً، وأتاح فرصة للمراجعة واستكمال متطلبات المرحلة. والدارسون والمؤرخون للفن الروائي والقصصي في المملكة يجمعون أو يكادون يجمعون على أن تلك المرحلة تمثل نقلة نوعية كبيرة، تجاوزت الهواية إلى الموهبة، والتسلية إلى الجد، وواحدية المضمون إلى تعدد القضايا ولذلك «تنوعت المضامين وتعددت الأساليب»)11(. «وثمن التضحية» للروائي حامد دمنهوري تحتل مركز الريادة الواعية، والنضج الفني المتميز، ويجب هنا أن نفرق بين الريادة الزمانية والريادة الفنية، والريادة في الرواية والريادة القصصية، فالأنصاري رائد في السبق الزمني ولكن الفن الروائي المستكمل لمتطلبات العمل الروائي لم يكن إلا على يد حامد دمنهوري، ولم تكن تلك الرواية الرائدة فنياً وحدها في الساحة، كما كانت رواية «التوأمان» في البداية بوصفها رائدة زمانية. بل تتابعت الأعمال الروائية الجيدة مما مكن لهذا النوع الأدبي من اللحاق بركب الأعمال الجيدة، في الوطن العربي، وهو لحاق اختصر الزمن، وكشف عن امكانيات وأجواء ملائمة لنضوج العمل الروائي. ومما يؤخذ على هذه المرحلة ضعف اللغة وشيوعها وعدم انزياحها، والإبداع تعتمد قيمته على لغة نقية منزاعة في الدرجة الأولى، الضعف الذي نشير إليه ليس خاصا بالمبدع السعودي وحده، فالروائي العربي في الأعم لاينتقي لغته كالشاعر، ولايحاول صياغتها ببراعة، إذ همه منصب على استكمال الموضوع، وتوفير الحركة الداخلية، واستكمال صور الشخصيات، والمحافظة على مستواها الاجتماعي والفكري. بحيث لاتتناقص في مستوياتها، ولسهولة الشرط السردي تقحم هذه المهايع من لايحسن الإبداع، ومن لايحمل موهبة ولايجيد صياغة وصدرت أعمال قصصية وروائية ليس لها من هذا الفن أدنى نصيب. وفي تلك المرحلة شاركت المرأة في الإبداع القصصي والروائي، حيث ظهر أكثر من ثماني روايات لسميرة محمد خاشقجي وحدها لعل من أهمها: «ودّعت آمالي» و«ذكريات دامعة» و«بريق عينيك» و«وادي الدموع» و«وراء الضباب». كما ظهر للروائية هدى عبدالمحسن الرشيد «غداً سيكون الخميس» طبعت 1976م، ولهند صالح باغفار «البراءة المفقودة». ومن القاصات، وهن كثر، نجوى هاشم، ولها «السفر في ليل الأحزان». ونجاة خياط، ولها «مخاض الصمت». وأمل عبدالحميد، ولها «من عمر الزمن». وعائشة زاهر، ولها «بسمة من بحيرات الدموع». وأمل شطا، ولها «غدا أنسى». وشريفة الشملان، ولها «مقاطع من حياة». وفاطمة الحناوي، ولها «أعماق بلا بحار». وفوزية الجار الله، ولها «في البدء كان الرحيل». وقماشة السيف، ولها «محادثة برمة»، «شمال شرق الوطن»، وقماشة عبدالرحمن العليان، ولها «خطأ في حياتي»، ونجوى مومنة، ولها «أخيراً ضاعت مجاديفي». ولطيفة السالم، ولها «الزحف الأبيض»، ورقية الشبيب، ولها «الحزن الرمادي» و«حلم». وخيرية السقاف، وأميمة الخميس، ولها «الضلع حين استوى» ولا أحسبه يستوي وقد خلقت منه كما أخبر الذي لاينطق عن الهوى. وبهية بوسبيت، ولها «وتشاء الأقدار» وأعمال قصصية أخرى. ومريم الغامدي، ولها «أحبك ولكن» وزهرة المعبي، ولها «التجديف في عيون حالمة». وغير أولائي كثير. ويبدو التفاوت الواضح بين تلك الأعمال الروائية لا من حيث اللغة، ولا من حيث البناء الفني فحسب، وإنما من حيث الموهبة والتجربة والوعي، وبعض تلك الأعمال النسائية تمثل مغامرة غير واعية، إذ لاتتوفر على أدنى حد من الفنيات المطلوبة، وبعض أولئك الروائيات حققن تطوراً ملموساً في اللغة والبناء والموضوع، والبعض الآخر ظل كما هو ينشئ كلاماً ليس له من الفن شيء، وأعمالهن بحاجة إلى أقلام ناقدة تضع أعينهن على مواطن الضعف ومظان التقصير، دون مجاملة أو تحامل وغياب النقد أو مداهنته تغرير وإساءة، وللمرأة رؤية وتصور تختلف عن رؤية الرجل، وتطلعات المرأة تنطلق من الرجل وتعود إليه، وقد يستهلك المرأة تصور فارس الأحلام وتخيل الأبناء ورسم العش الزوجي بعيداً عن مشاكله، وقد تكون المرأة غاضبة رافضة لفوقية الرجل وما أعطاه الله من درجة لم يحسن استغلالها. وعلى شكل كبير انثالت الأعمال الروائية لعدد من الروائيين البارزين، من أمثال ابراهيم الناصر، ومحمد زارع عقيل، ومحمد عبده يماني، وخليل الفزيع، ولن نعرض للأعمال الإبداعية للمهاجرين الذين لاتربطهم صلة ثقافية في البلاد من أمثال عبدالرحمن منيف، ولا للأعمال المتنازع عليها بين الأقطار العربية، وبالذات منطقة الخليج من أمثال خالد الفرج، مالم يكن التنازع في غير محله كما هو حال غازي القصيبي)12(. وقبل تقصي منجز مرحلة التأسيس نعود إلى رائد هذه المرحلة لننظر إلى أي حد كانت إضافته. وريادة الدمنهوري لهذه المرحلة لاينازعه فيها أحد. والدارسون يجمعون على ريادته لتلك المرحلة. لقد أصدر عملين روائيين وحسب. هما «ثمن التضحية» 1959م و «مرت الأيام» 1963م. درس الدمنهوري الأداب في مصر، وقويت صلته الفنية بكبار الروائيين المصريين، وتأثر بهم، وأستلهم بعض فنياتهم، ولأنه روائي بالموهبة، ومتقن للفن الروائي بالدراسة، فقد بدت استقلاليته. وروايته «ثمن التضحية» هي البداية الحقيقية للأعمال المعتبرة بمقاييس النقد الروائي. ولا استبعد أن تكون تلك الرواية )سيرة فنية( على غرار «شقة الحرية» للقصيبي التي صدرت مؤخرا، فالبطل أحمد عبدالرحمن يذهب إلى مصر للدراسة. وفواد بطل «شقة الحرية» هو الآخر يذهب إلى مصر للدراسة. ذاك من مكة، وهذا من البحرين، ركز الدمنهوري على التضحية، وجعل التمسك بابنة العم «فاطمة» والعدول عن «فايزة» نوعاً من التضحية، والرمز باد بوضوح في أشواط الرواية. عالج الدمنهوري قضايا اجتماعية وتعليمية، في حين ركز القصيبي على المتغيرات السياسية، وتياراتها المختلفة. وقف الدمنهوري رؤيته على البيئة الحجازية، بينما اتسعت رؤية القصيبي للبيئة العربية. ذاك في الاجتماع، والتعليم، والمتغير الاجتماعي، وهذا في المتغير السياسي. والدمنهوري الذي يجمع بين مبتعثين هما: )عصام، وابراهيم( يقوم بينهما جدل حول الحب والزواج، نرى القصيبي هو الآخر يجمع في «شقة الحرية» عدداً من المبتعثين البحرينيين المتجادلين في شؤون السياسة، وهم )ماجد الزبير وأحمد الخطيب وبراك النافي(. والدمنهوري يعالج القضايا بهدوء، والقصيبي يواجه الأخطاء بعنف. الدمنهوري روائي بالموهبة، والقصيبي روائي بالاقتدار. والاثنان يمثلان بعملهما نوعاً من الصراع الاجتماعي والسياسي. على غرار الصراع الحضاري الذي يدعي النقاد المواطئون على الخطيئة ان الطيب صالح يمثله في )موسم الهجرة إلى الشمال(، وإن كنت لا أراه صراعاً حضارياً بقدر ما أراه سقوطاً أخلاقياً، أقيلت عثرته بهذا الادعاء العريض، وعلى غرار الصراع عند يحيى حقي في )قنديل أم هاشم( والحكيم في )عصفور من الشرق( مع الفارق الكبير بين صراع حضاري مكتمل السمات، وصراع حضاري من طرف واحد، أو داخل مجتمع عربي واحد، كما هو عند الدمنهوري والقصيبي. لقد أنشأ الدمنهوري جدلاً خفياً بين البيئة المصرية، والحجازية، وحبذ اللحاق بركب الحضارة، بينما ذهب القصيبي لإنشاء جدل واضح كل الوضوح بين التيارات السياسية في مصر ودول الخليج العربي. ولعل المتغير الاجتماعي جذب الدمنهوري، في حين جذب القصيبي المتغير السياسي. وكلا العملين رصد واضح لاصداء مرحلة كل منهما. ويمتاز الدمنهوري بموهبته القصصية، واتقانه للمقاييس الفنية للعمل الروائي، وهو ما لم يتوفر بالحجم نفسه عند القصيبي. والوعي الحضاري، والسياسي، والفكري عند القصيبي أميز منه عند الدمنهوري. والدمنهوري الذي عاش الحياة المصرية، وشهد موقع المرأة فيها، وأحس أن التعليم المحدود للمرأة في الحجاز تساوره الرغبة في أن يكون للفتاة في الحجاز بعض مالها في مصر، ولا أستبعد ان تكون )فاطمة، وفائزة( رمزين لتنازع العادات والتقاليد والتأثر والتأثير بين حياتين اجتماعيتين، فهناك حب ل «فاطمة» رمز الوطن. وهناك إعجاب ب «فائزة» رمز التقدم العلمي والاجتماعي، وهناك صراع بين العقل والقلب. وهناك عودة إلى الحب والعقل، وتقدير للاعجاب والقلب، والصراع في الرواية على هذه الشاكلة يكون ساذجاً وتقليدياً، إن لم يتسع لهذه الاحتمالات. أسلوب الروائي شيق وسلس، وفيه تعميق لكل المواقف، وشد انتباه للقارئ. وقصر الهدف على الدعوة للزواج من بنات الوطن تقليص لأهداف الرواية البعيدة، لو أخذنا بظواهر اللفظ. وفي هذا السياق الموضوعي الاجتماعي عالج الكاتب أوضاعاً عامة، كتعليم الفتاة، واقتصاره على الكتاتيب، ومن ثم فإن الرواية تلح على ضرورة تعليم الفتاة، لأنها النصف الآخر، كما تمتد إلى جوانب أخرى من حياة أبناء المملكة في أهم مناطقها، وهي المنطقة الغربية، فتعالج أوضاع التجارة والثقافة والحياة الأسرية وصراع الأجيال والغربة، والرواية بهذا التخطي والفضائية الدلالية جذبت الدارسين، وإن كان لروايات الريادة بعض الاهتمام، إلا أنه لم يكن بمستوى اللاحق، كما ان روايات الريادة لم تكن بمستوى رواية التأسيس، وقد يكون لتلك الرواية بعض ما لروايات الانطلاق لتوفرها على بعد دلالي وفني ولغوي لم يكن لكثير من الأعمال السابقة. لقد درس الدكتور منصور الحازمي، والدكتور منصور الخريجي رواية «ثمن التضحية» ونشرت الدراستان في مجلة جامعة الملك سعود العدد الثالث عام 1379ه، ومن بعدهما جاءت دراسات موسعة من الدكتور محمد صالح الشنطي والدكتور السيد محمد ديب )13(، وقد آخذ )الحازمي( الروائي ببعض ما آخذ به بعض الروائيين، كما ألمح )الديب( إلى بعض الهنات، ولكنه دفع بعض مآخذ الحازمي. والرواية في المملكة لم تحظ بدراسات معمقة، ولم تمتد إليها أيدي المتخصصين بالقدر الكافي. ولن نجهل مبادرات أكاديمية ذات طابع منهجي وآلية متميزة من مثل دراسة حسن الحازمي عن البطل في الرواية السعودية، ودراسة منصور الحازمي بوصفه متخصصاً بالنقد السردي ليست كافية )14(، وإن جاءت في ثلاث عشرة صفحة. ولست أعرف وجهاً للموازنة بين «زينب» لهيكل و«ثمن التضحية» للدمنهوري. ولعل الجامع بينهما اعتزاز الحازمي بالعملين على اعتبار ريادتهما، ذلك في مصر، وهذا في السعودية، وهذا الرابط غير كاف لكتابة موازنة ليست عميقة. والرواية تنطوي على فنيات ودلالات بحاجة إلى دارسين لابرازها، ولو فرغ لها ناقد بمستوى الدكتور الحازمي لوفاها حقها، ولكنه ألم بها على عجل وتحت وابل من الضغوط والمسؤوليات والخيارات.