ها نحن أنتِ وأنا حيثُ وقفْتِ... وألقيتِ التحية على أسراب العبور.. تتَّخذين من السلام شارةَ مرورٍ...، وما وجدْتُكِ في أية لحظةِ تُدلِّسين السلام...!! ما أقدركِ على صنع أرديته... وما أصبركِ في تمهيد دروبه...، على كلِّ ما فيها من الحصى، والطَّمْي، والهوَّات، والعراقيل...، والشوك...، والخشاش... أراكِ في صمودكِ تنتصبين كرمحٍ في أوجه الرِّماح...، لا تفلُّكِ...، بل تزدادين فروسيةً... وتلك هي... وهذه هي... الحياة... الحياة... بأبناء الحياة... لا بالذَّات فيها، تلك التي تتمرَّدُ بهم، أو تلك التي تخضع لهم...! ها أنتِ اللَّحظة، وما مضتْ، وما ستأتي ترفعين بوصلة الاتجاه...، فيتقاطر السلامُ بين يديكِ بأبجدياته النقيّة...، والبيضاء... سلَّمْتِني مِلْقَطاً سحرياً...، وعلمتِني خواصّ ما يلقط... وزججتِني في البحر...، لم تكن تلك حيتاناً، ولا تماسيح، ولا قروشاً. ولا خبايا البحر... ذلك لأنَّ ملقطاً في يد إنسانٍ، من المحال أنْ يحمل أثقال البحار... لكنكِ قلتِ لي عندما كنتُ أستلم منكِ «الملقط»: ليكن كلُّ شيء من حواسِّك يقظاً...، لأنَّكِ لا تحتاجين لأن تلتقطي إلاَّ الذَّرات والبذور، وبدايات الخيوط...، لا تضطري إلى مصارعةِ لحظةٍ لا يكون فيها أمامكِ إلا مواجهة أثقال البحر!!... لحظتها نقشتِ في ذاكرتي أوصاف السلام، وخطَّطْتِ لي مساربه، واستوت في هذه الذاكرة خارطةُ دروبه، ومزاياه نقشاً أبهى من نقوش إيوان كسرى في حفيف أبجدية البحتري...! ورسيسها...! لله درُّكِ... كيف تكونين بهذا الثراء، والبهاء، والجمال، والكمال...؟!... وتصمتين... وغوغاء الذين لا يتباهون تصخب؟... تمادت بكِ دروب النُّور... وعيناكِ لم تلتقيا مواقع أقدامهم... وإني وحدي من يدرك ما عنهما من النار، وما عنهما من الماء! تلك حكمة الصَّبر فيكِ... وتلك نبوءة النبوءة في سرمدية العبور البهي في تمادي الإشراقة، في اصطلاء الغموض، وإجلاء البياض... وحدكِ من يُعلِّم...، ووحدكِ من يقتني...، وما كنتِ في الأولى بخيلةً...، ولن تكوني في الثانية ذاتيةً...، لكنَّ التعليم والاقتناء... ضمن منافذ السلام الذي تغرسين فسائله في الدروب الموصدة، كي تشرع في الحياة بوابةُ العبور الكبرى... فتتحول الصدورُ كلُّها إلى مساحات استقطابٍ لنبض النَّبض في قلوب الفرح، ولفرح القلوب، أنتِ أوَّل الذين كتبوا في دفتره حروف البدء... وأنتِ أوَّل من خطَّ فيه حركات البدء... وأنتِ أوَّل من رسم له نقطة البدء... وكنتِ البدء حتى لو تواريْتِ في غياهب الزمن الذي مضى... وتكونين العبور حتى لو بقيتِ تصارعين متاريس اليأس الذي يعرفون... ذلك لأنَّكِ لا تتعاملين مع أبجديات السقوط... يا بدءاً لا يعرف نهاية... ويا عبوراً لا يكون له وقوفٌ... ويا وقدةً لا جليد في مداها... تمادي في أودية وسهوب ومتاهات ومرتفعات وانبساط الآماد كلها ببهائكِ وصبركِ... بقوتكِ... وأملكِ... بكِ لا بغيركِ... وبما هو منكِ... وفيكِ... ولكِ... ستكوِّنين لشارة السلام بصمةً أزليةً... سوف يقصدكِ دفترُ الزمن كي يمنح أوراقه لكلِّ العابرين به وأنتِ موشومة في أولِّ سطوره... سوف يفتح لهم بوابات مدرستكِ، سوف يعلمهم أبجدياتكِ حتى أنكِ سوف تكونين نصب البياض...، السلام كلُّه أنتِ... ولكِ أن تعلمي كم هو درس السلام صعبٌ... وكم هي أبجديته متداخلةٌ... وكم هي حركات شكلها ثقيلةٌ... وكيف هي أشكال رسومها دقيقة... أوَ تتخيلين أنَّ كائناً من كان، يستطيع أن يُتقن درس السلام على ما تريدين؟! أنتِ أنموذجٌ بشريٌّ فريدٌ... والفريد لا يتكرر... لكنَّكِ سخيةٌ تنتصبين رمزاً... وبيدكِ مفتاح المدى... آه يا أنتِ كم أنتِ ناصعة حتى في صمتكِ، في صوتكِ، في مداكِ العابق بكِ... ويكفي أنَّكِ أنتِ... كي تكون الحياة حياةً بكِ وحدكِ... فألقي التحية على أسراب العبور... وتجاوزي إلى مداكِ الذي لا نهاية له... سوف ألتقط من طائر السلام ريشاً... ولسوف أخطُّ به شارة البدء، شارة العبور... فلقد فتح الزمن دفتره كي يسجلوا أوَّل بصمة خطوةٍ لهم فوق مسارب العبور. وتبقين وحدكِ من يتبعون خطاكِ... من تحملهم عطوركِ فوق أجنحة عبق الصفاء إلى حيث يرون أجمل ما في الجمال من صدق السلام وبهائه. فقري حيث غرستِ نُصُب التحية و... الكلام!.