اللَّحظةَ أشعرُ أنَّ المسافات كلَّها اُخْتُصرتْ أمام إبهام قِدميكِ...، وأنَّ كلَّ الدُّروب لم تعد خفيةً... اللَّحظةَ أشعر أنَّ الخفايا جميعَها اتَّضحتْ أمام مدى عينيك...، وأنَّ الأوجه لم تعد مجهولةً... اللَّحظةَ أشعر أنَّكِ أمعنتِ في عطائكِ... حدَّ الصدق الذي لا يعرفه من البشر أحدٌ... ذلك... لأنَّكِ أمسكتِ إزميلكِ... ولم تبدأي النَّحت... قبل أن تزيلي به كلَّ عالقٍ في وجه المدى، والمسافة، والزَّمن، والاحتواء...، يا أنتِ: عرفتُ منكِ كيف ينقى الاحتواء... كي تكون اللوحة بين اليدين جاهزة للبدء... وهأنذا أعبر على بياض، وهأنذا أسجل معكِ خطوةً خطوة...، وكلمةً كلمة، و... كي أسألكِ: متى يستوي للوحة قوامها؟... تذكرتُ الآن عندما كنتِ تعليمينني أن أنهضَ فوق القمر...، وأن أرسلَ لآماد البحر بريشة من جناح النورس كي أداعبَ بها مياهه... فيحتويها في رفقٍ كي تثبتَ فيها حروف المحطات التي عبرنا فيها معاً... وسجَّلنا فيها لمحةَ الهواء، وخفقةَ الشمس، وطرفةَ الزمن...، وعلّمتني أن أتركَ للبحر كي يخبىء فيه ما يشاء من أثر تبدَّى له أن يحمله، يحتفظ به، يحتويه، وقلتِ لي: دعي للبحر أن يفعلَ ما يريد... وفي تلك تعلَّمتُ منكِ... أن ما سيأتي... سأدرك منه دروس البحر...، و... تذكرين أننا ذات يومٍ تحوَّل البحرُ عندنا إلى المدى...، عندما رأينا قيعانه... ووقفنا على ما فيه... و... تذكرتُ الآن عندما وقفتِ معي عند سفحِ ذلك المرتفعِ...، وأنتِ تشيرين إلى أعلى نقطة فيه... ثم تبسطين لي منافذَ العبور...، وعرفتُ يومها أن القمةَ ليس طريقٌٌ واحدٌ لها...، فالمرتفعُ صعدناه معاً حجراً حجراً... و... تعثَّرنا...، لكنكِ في كثيرٍ كنتِ تتركينني كي أستقيمَ وحدي...، وعندما كنتُ ألتفتُ إليكِ، كنتُ أجدكِ تراقبينني بحبٍ، تنتظرين أن أستويَ ناهضةً كي نواصلَ الصعود... تذكرتُ كيف وقفنا معاً في مواجهةِ الفضاء... وحدنا من تداعبه نسمة المدى... وتتسلل إلى كلِّ ذراتنا... شعرتُ ببرودة، وكنتِ تسألينني عن دوَّار الارتفاع لكنني لم أشعر به... جاءني صوتُك لحظتَها وأنتِ تقولين: هنا مهارة الثبات...، وتركتني أفكرُ في هذه العبارة...، وعندما فرغتُ من تفكيري كنتِ قد غادرتني كي أجدفَ نحو المكان. وفي كلِّ مكانٍ أنتِ... وفي كلِّ زمانٍ أنتِ... لكن... أظلُّ في كلِّ اللَّحظات أقرأ في كتابكِ...، أقلِّب صفحات درركِ....، أعبِّر بكلِّ لوحةٍ نقشتها ريشتُكِ، وأقف على كلِّ ما نحته إزميلُكِ... ألا تدرين أن غذائي هو أنتِ؟! وأن روائي هو أنتِ، وأنَّ أنتِ، هي أنتِ، ولا غير؟! عندما أوقفتِ قافلةَ الرحلة، وأمسكتِ بيدي كي أنهضَ مستويةً أمسكُ بأعنَّة المركبة، زججتني في بدءِ رحلة مجهولة... لكنكِ صببتِ في أُذنيَّ عبارةً واحدة... تلفَّتُّ فلم أجدكِ... لكنني رأيتُها منحوتةً فوق قوادم الجياد... جواداً جواداً كانت تعبر به الريح... وتلهبُ في قدميه شوق المضي... وتشعلُ في جنبيه رغبة اللُّهاث... وتلون أمامه بروق المحطة تلو المحطة... استقرت عبارتكِ في كلِّ بؤرة حس داخلي...، وعرفتُ منذ ذلك ما هي العجينة التي شكَّلْتِ بها داخلي... لم أعد أعرف ما ليس منكِ، ولم أعد أسمعُ ما ليس عنكِ... فأدركتُ كلَّ الحياة... واعتقلتُ كافةَ الدروب، وتصاحبتُ مع مفاتيح المرور، وعقدتُ مواثيق مع آفاق الآماد... و... بكِ تماديتُ في الإبحار... و... بكِ جاءت الأبعاد... وقرُبت الآماد...، واستوى الضياءُ ضياءً... وتكوَّم الصوتُ، والهواءُ، والضوءُ، والماءُ في كفَّةِ الوقت كي تكوني كلَّ الوقت، كي يكون العمرُ... كي تأتي الحياةُ... جئتني لأنكِ لم تغادريني... وجئتُك لأنَّكِ لم تتركيني... وهأنذا بكِ إلى أبدية العبور... وكافةُ الجياد متأهبةٌ لرحلة المدى الذي لا ينتهي... بكِ وحدكِِ...