ما أعظم دين الإسلام وما أروعه وما أكثر عنايته بتربية الناس على الأخلاق القويمة، فترة عبد فترة، وموسماً بعد موسم، يذكرهم بها إن نسوا ويوقظهم إذا غفوا، ويحفزهم إذا تكاسلوا. منذ شهرين، شوال وذي القعدة، فرغ المسلمون من تدريب عملي على الصبر وضبط النفس والإحساس باحتياج الفقير، ومعاونته على قسوة الحياة بشطر من أموالهم. كان ذلك في رمضان خلال ثلاثين يوماً ختمناها بعيد الفطر، وفيه تبادلنا الزيارة وصلة الأرحام ونسيان العداوات القديمة وبرِّ ذوي القربى والصحبة والإحسان إلى من يستحق الإحسان من الأبعدين. واليوم، بعد شهرين من رمضان المبارك، نبدأ في تدريب عملي آخر على الصبر وضبط النفس والإحساس بالأخطاء، والذنوب والأمل في التوبة والصلاح. واليوم، أيضا نستشعر قرابة المسلم للمسلم مهما شطت الديار، ومهما اختلفت الألسنة والألوان ونحس بأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وندرك ان المسلمين عامة أمة واحدة، لابد من العمل على تجميعها وتشجيعها ومقاومة تعديدها وتنويعها. إنها فترة الحج: موسم الجهاد الأصغر الذي هو تمرين وترويض للنفوس المؤمنة على الجهاد الأكبر جهاد الأهواء والأخطاء. يقول الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله: إن الحج والصلاة والصيام والزكاة جميعها عبادات يجب على المسلم ان يخضع لأدائها ولو لم يدرك مقاصدها ومصالحها، تصديقاً لقول الله عز وجل : «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» الذاريات/56. ومع ذلك يدرك العقلاء المفكرون المتأملون ان للعبادات في الإسلام كما للمعاملات مقاصد ومصالح ومكارم، وإذا كنا نذعن بأداء الحج كعبادة يجب، في الوقت نفسه أن ننتفع بمقاصده ومصالحه ومكارمه التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: «وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق، ليشهدوا منافع لهم..». الحج/27 28. والمنافع، وإن فسرها بعض العلماء أو معظمهم بالتجارة، بيد انها في حقيقتها تتسع لمعانٍ وأبعاد ومجالات متعددة ومتنوعة، فكل أمر أو فعل أو عمل أو سلوك فيه منفعة لجماعة المسلمين دينية كانت أو مادية أو اجتماعية أو سياسية، فهو من منافع الحج لا ريب فيه. ولذلك ينبغي للمسلمين أن ينتهزوا فرصة الحج للتعارف والتعاون على حل مشكلاتهم وفصل قضاياهم وللعمل على رفع شأن الإسلام وعزة المسلمين في كل مكان من العالم وتحقيق وحدتهم وقوتهم. فالإسلام، إذن، دين المقاصد والمصالح والمكارم وليس دين العبادات المجردة من منافع الفرد المسلم والجماعة المسلمة. لنتساءل: لماذا نحج؟! ألنطوف بالبيت الحرام؟! أم لنبيت في مزدلفة؟! أم لنقف في عرفات؟! أم لنرجم بالحصى الجمرات الثلاث؟! أم لنقدم الأضحيات والفدى؟! وغير ذلك من أعمال الحج ومناسكه؟!. حقاً هذه مظاهر الحج وشعائرها ولكنها ليست لبابه وجوهره وحقاً، تلك وسائله وصوره، ولكنها ليست غايته ومغزاه. إننا منذ مئات السنين، نحج ونتخذ وسائله وصوره ونرجع ببعض بركاته: المريض يشفى، والفقير يستغني والعقيم تلد، والعانس تتزوج والفاسد يصلح، والمذنب يتوب، وهي بركات للحج المبرور لا ريب فيها، لأنها ثمرات للدعاء المخلص في مواقف مباركات ورحاب مقدسات. إن القرآن الكريم يتحدث عن دعوة المسلمين الى الحج ويعللها بقوله عز وجل: «ليشهدوا منافع لهم..» الحج/28. والمنافع هنا فردية وجماعية مادية وروحية، دنيوية وأخروية، مباشرة وغير مباشرة منظورة وغير منظورة، ملموسة وغير ملموسة، عاجلة وآجلة، قريبة وبعيدة، في وقت واحد. إذن: فمتى نحج من أجل جوهر الحج ولبابه؟! من أجل إصلاح مجتمعاتنا ؟! من أجل تطهير أراضينا؟! من أجل تحريرها من الاستعمار والصهيونية؟! إلى جانب ما نحققه من بركات فردية خاصة: شفاء من مرض، غنى بعد فقر، صلاح بعد فساد. لقد حرص القرآن الكريم على تهذيب الفرد الحاج وهو يؤدي نسكه، لأن الفرد المهذب أصل الجماعة المهذبة فهي تتألف منه ومن أمثاله، ولن تكون جماعة صالحة ما لم يكن فرد صالح، وصلاح الجماعة طريق الى تعاونها وتضامنها في الخير المشترك والسلام العام. فالحج، كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عمل ينغّص على المستعمرين استقرارهم ويوهن كيدهم فإن المسلم في داكار على شواطئ الأطلسي عندما يلتقي بأخيه في سنغافورة والملايو على شاطئ الهادي يخترق نطاق العزلة التي يريد الاستعمار حبسه وراء أسوارها كي يتمكنوا من الاجهاز عليه. ختاماً أقول إن الحج فرصة كبرى للصلاح الفردي والاصلاح الجماعي وعلى قادة المسلمين من حكام وعلماء وعامة ان يعملوا صادقين للانتفاع من هذه الفرصة المتكررة كل عام مرة لتحقيق عزة العالم الإسلامي. عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية