سبق أن ذكرت في الجزء الاول من هذا الحديث انه ما ان تتجاوز مسافة حوالي عشرين كيلو مترا الى الشرق من بلدة «تمير» حتى يبدأ مستخدم هذا الخط يشعر بفارق المكان والحاجة إلى خدمات الهاتف الجوال : فالمكان عبارة عن هضبة تبدأ مرتفعة لتأخذ في الانحدار الى الشرق تدريجيا حتى تتوارى مع ظهور «صهود» النفوذ ورمالها الحمراء ... مثلها تماما مثل هضبة الرياض للقادم من الغرب جهة جبال «طويق» حيث تبدو مرتفعة ثم تبدأ في الانحدار نحو الشرق لتلتقي مع رمال خريص «سابقاً» ثم بعد ذلك مع رمال النفود. أما الجوال ... فقد كان انقطاعه عنا مصدر قلق نفسي وذهني كبيرين لتعودنا عليه وارتباطنا اليومي بهذه الآلة الصغيرة التي هي «العالم بين يديك».. وانقطاعه يعني انقطاعك عن هذا العالم الذي هو جزء منك وانت جزء منه ... فضلا عن فقدك الصلة مع عملك وحتى مع المنزل او العائلة ومن هم انت دائما في حاجة للاتصال بهم وهم في حاجة للاتصال بك ... وكم كان سروري بالغا عندما رأيت عن بعد على هذا الطريق ، برجين مكتملي التشييد.. قيل انهما لخدمات الهاتف الجوال في هذه المنطقة «قريبا ان شاء الله» وان لدينا في المخيم هاتفاً «هوائي» (اسقاط) للمكالمات الضرورية.. كما عظم سروري وازدادت نفسي طمأنينة عندما علمت ان لدى احد الزملاء معنا هاتفا جوالا مرتبطا بالاقمار الصناعية ملغيا بذلك كل الحواجز الطبيعية وابعاد المسافات على الارض. والآن وقد وصلنا الى «خيمة الوفاء» واطمأنت نفوسنا باننا مازلنا على صلة بالعالم من حولنا لوجود الاتصالات الهاتفية الى جانبنا ... اخذ الحديث مع اصدقاء الكلمة الصادقة يجول بنا يمنة ويسرة ، في القديم والحديث .. في الادب والشعر .. مع ذكر بعض ماورد في كتاب الزميل الاديب الاستاذ «حمد القاضي» الذي صدر حديثا بعنوان : الشيخ حسن آل الشيخ: الانسان الذي لم يرحل .. خاصة في مجال الحديث عن الشيم الرفيعة والمواقف النبيلة للشيخ الجليل رحمه الله .. مما يستدعي ان نفرد له جزءا متكاملا من حديثنا هذا .. حديث الاوفياء .. ليكون مسك الختام لكل ما ذكر من احاديث. ومهما يكن من امر ، فقد كانت حكايات الادب والشعر العربي الفصيح تتسيد كل مسارات الحوار والمداخلات المتبادلة. وقد كان مفتاح الحديث كما هو دائماً في معظم المجالس والمناسبات هو «مدرسة الحياة» «ابو الطيب المتنبي» وكيف ان الناس قد حفظوا معظم اشعاره وخاصة تلك التي تتعلق بالوصف او الحكمة او تلك التي لها رنين مميز لدى الادباء وعلماء اللغة العربية ... يستوي في ذلك محبوا الشاعر «المتنبي» وكارهوه .. فهذا «الشريف الرضي» وهو الشاعر الذي يروى انه كان يكره «المتنبي» كان ذات يوم يشتم المتنبي في مجلسه وعندما اعترض عليه «ابو العلاء المعري» الذي كان حاضرا في تلك الجلسة بقوله: لو لم يكن للمتنبي الا القصيدة التي مطلعها «لك يا منازل في القلوب منازل» لكفته. فقال الشريف الرضي على الفور: اخرجوا هذا الاعمى من مجلسي.. بعد ذلك جاءه من سأله: اتخرج هذا الاعمى المسكين من مجلسك بدون جرم؟ قال الشريف الرضي: لقد قصد الاساءة الي او هجائي.. لأن من ضمن ابيات هذه القصيدة: واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي باني كامل مما يعني ان «الشريف الرضي» وهو الذي روي عنه عدم وده للمتنبي كان يحفظ العديد، ان لم يكن معظم قصائد الشاعر العظيم «ابو الطيب المتنبي». وتطرق الحديث الى الشاعر «نزار قباني» الذي كان قد لامه احدهم لغزله المفرط مما يعد اساءة للمرأة وامتهانا لدورها في المجتمع والحياة .. مقارنة بالشاعر «عمر ابو ريشة» الذي لم يرو عنه شيء من ذلك .. وقد اجابه «نزار» بقوله : ان كل ما قلته في المرأة لن يكون اثقل ولا اشد مرارة على المرأة من «بيتين» قالهما عمر ابو ريشة هما: أما الصبا .. فلقد ولت لياليه فابكيه ياعفة الجلباب فابكيه اليوم جئتك لا صبا ولا ولها بل للجمال الذي يذوي اعزيه إذ لا شيء أقسى على المرأة مثل ان تعزى في جمالها وما كان قد وهبه الله لها من ريعان الشباب. وبعد تداول العديد من هذه المداخلات الادبية كان اخضرار الارض وطيب الزمان والمكان مجتمعة توحي لنا بالعديد من روائع الشعر خاصة تلك التي قالها محبو هذه الارض من شعراء العربية الاقدمين: فهذا «الصمة القشيري» يقول: قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى وقل لنجد عندنا ان يودعا بنفس تلك الارض ما اطيب الربا وما احسن المصطاف والمتربعا واذكر ايام الحمى ثم انثني على كبدي من خشية ان تصدعا وليت عشيات الحمى برواجع عليك ولكن خل عينيك تدمعا وهذا شاعر آخر يقول : تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار أيا حبذا نفحات نجد وريا روضه بعد القطار وهنا .. أقول ان هذين الشاعرين ومثلهما العديد من الشعراء الذين تغنوا بنجد وما له وما فيه من الرياض والفياض خاصة في مواسم الربيع، لابد وانهم قد لامسوا تراب هذه الارض وتشربت ارواحهم ما تزهو به هذه المرابع من الوان الزينة وفنون الجمال .. وكانوا كذلك بسطاء سعداء ... يكفي احدهم ان ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه وتقبل الرياح من كل جانب فكأنه في ايوان كسرى. وتمتد الاحاديث والمداخلات الادبية لحين تقديم الغداء الذي «قطع صوت كل خطيب» كما هو ا لمثل السائر المعروف . هذا ... وفي لقائنا القادم، ان شاء الله ، سوف استكمل معكم ما تبقى من احاديث هذه الرحلة الميمونة.