وقل"لنجد"... عندنا أن تودعا.."الوطن"عنوان الأمان، ومناط الطمأنينة. والمرء يحب وطنه عندما يتلظى على الجمر، أو عندما يتوشّح بعطر الورد. وحده"الوطن"الذي يأويك عندما تنفيك كل الأوطان. وحده"الوطن"الذي ينصفك عندما يظلمك الآخرون. وحده"الوطن"الذي يحتويك بالدفء عندما يضنيك صقيع الاغتراب. والإنسان يحب وطنه ليس لأنه أجمل الأوطان، أو أغنى البلدان، أو أكبر الديار... حب"الوطن"غريزة إنتماء تولد مع الإنسان وتتشكل معه في أطوار عمره كافة، أليس هو أول أرض مس جلده ترابها ? كما تقول العرب - وما أصدق ما قاله الشاعر السعودي ابن"شقراء"النجدية في أبيات جميلة: أحبك يا أرضي ولست بخيرها ? ففي غيرك الأزهار والخصب والفنن ولكنك الأغلى فأنت حبيبتي ? وأنت لي التاريخ والأهل والوطن ومن يعشق الأوطان أرضاً ووطناً ? يبيح ربيع الأرض لو أنه الثمن بل إن البعد عن الديار، موطن الأهل والأحباب جعله الله عقوبة لعباده بل ساواه بالقتل، فالله يقول في محكم كتابه: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ"سورة النساء، آية 66". من هنا كان استغرابي وأنا أقرأ مقال أخي أحمد بن راشد بن سعيّد في صحيفة"الحياة"بتاريخ 11 - 8 - 1429ه، الذي كان عنوانه:"نجد.. آه يا نجد"، لقد تساءلت بعد قراءة المقال كيف لابن"نجد"أن يطاوعه قلمه بل قلبه ليهجو مراتع صباه، وموطن آبائه ورمز انتمائه؟ لقد رأيت بحديث أخي أحمد عن جزء غالٍ من وطننا الحبيب حديثاً أقرب إلى الهجاء، وأدنى إلى الذم، بل ألصق في"نجد الحبيبة"من الأوصاف كما لو أنها أسوأ البلاد... لقد هجوتها ? سامحك الله ? مناخاً وصحراءً ومعاشاً وناساً! لقد احترت كثيراً ما الذي حداك وحدا بصاحبك إلى هذا المسلك، ولكي يدرك القارئ قسوة ما كتبت عن جزء غالٍ من وطننا"نجد الغالية"أنقل مقطعاً مما كتبت بأسلوب أقرب إلى السخرية: وهل عَرَفتْ نجدُ ربيعاً قطْ، وهل احتضَنتْ فيافيها بُحيرةَ بطْ، بل إنها تخلو حتى من النِّفط، مساكينُ أهلُ نجدْ، تحدوهم إلى المطر مشاعرُ الوجدْ، فيفرحون إن لاحتْ بوادرُه، ويطربون إن هلتْ بشائرُه، ويحزنون إن أقلعَ هطلُه، ويبتئسون إن عزَّ نولُه، وقد ساقهم الاضطرارْ، إلى لزوم الديارْ، وكتمان الأسرارْ، واصطلوا بلهيب الشمسْ، مصطلحين على تسمية ذلك بالحَمْسْ وليس في نجد إلا شتاءٌ وصيفْ، لا تتخللُهما ألوانُ طيفْ. لو تأملت وأنصفت ما كتبت ما كتبت، ودعني أقف معك وقفات سريعة أبين لك الخطأ والظلم في ما حبرت وما سول به لك حبر قلمك: الوقفة الأولى: هل"نجد"هي الوحيدة ذات المناخ القاسي حتى تمطرها بهذه"النبال"القاسية؟ وهل الأوطان لا تحب إلا إذا كان هواؤها عليلاً، وماؤها نميراً؟ أنسيت أن مكةالمكرمة، والمدينة المنورة أحب البقاع إلى الله وإلى رسول الله وإلى عباد الله ولم يضرهما لهيب صيفهما أو زمهرير شتائهما من أن تكونا أغلى بلاد الدنيا وأبهاها. أسألك مرة أخرى هل الحر عيب تُكره من أجله الأوطان؟ إن الناس يعشقون أوطانهم ورداً كانت أم رماداً.. وهجاً أو هجيراً. الوطن ? مهما كان - هو الأوفر أمناً والأقرب رحماً. إن الغربة عن الوطن ? كفاك الله أوارها ? عذاب تذوي به الأجسام... إن"قطعة خبز في الوطن خير من بسكويت في الغربة"- كما يقول فولتير. الوقفة الثانية: لقد نبتت شجرة الاستغراب والعجب في بيادر ذاتي عندما قلت ? ويا لخطأ ما قلت-"بل إنها تخلو حتى من النفط"، لقد نفيت وجود"النفط"في نجد، وهو على مرمى"برميل"منك، فمنابع النفط تدفقت نفطاً حلواً سائغاً لمحركات التنمية من مدينتك حوطة بني تميم، إحدى عرائس نجد في وطننا العزيز! الوقفة الثالثة: كيف ظلمت"نجد"عندما تساءلت منكراً"وهل عرفت نجد ربيعاً"! ألم تعش في نجد أيام الأمطار، وأبصرت كيف تتبرج الصحراء بجمالها، والأرض بخزاماها والسهول بغدرانها! ألم تر صحراء وربيع وسهول"نجد"إذا زارها السحاب كيف تكون أرضها لا أجمل منها. ودعك من تزين نجد بأبهى حلل الربيع عندما تعزف الرعود أجمل لحونها، لكن أينك من اخضرار أشجار ونخيل نجد في كل الفصول؟ ألم ترَ عيناك - سلمت عيناك - غابات الأشجار المثمرة، وسنابل القمح المشرقة، وجدائل النخيل الباسقة في منطقة الرياض ومنطقة القصيم ومنطقة حائل؟ لقد سجلت وخلدت مفاتن هذا الجمال دواوين الشعراء الذين سكنوا نجد أو زاروها وظلوا يحرقهم الشوق والحنين إليها، ورحم الله"رؤبة بن العجاج"الذي نقل عنه الأصمعي في كتابه"النبات"وهو يصف فصول"نجد"بكل إنصاف وبإيجاز بليغ:"شهر ثريّ، وشهر ترى، وشهر ترعى، وشهر استوى وذلك أن المطر إذا وقع الأول منه تمكث الأرض تراباً رطباً، فهو قوله ثريّ، ثم تنبت فيُرى النبات، فهو قوله ترى، ثم يكون في الشهر الثالث مرعى، ثم يستوي النبت في الربيع فيكتهل". ألم تقرأ في ديوان الشعر العربي كيف هام الشعراء بربيع"نجد"وجمالها وبفتنة الصحراء وصفائها؟ ألم تقرأ ما قاله جدك الشاعر"ابن الدمينة"في قصيدته التي تغنت بها العقود على مر الدهور : أَلا يا صَبا نَجدٍ مَتَى هِجتِ مِن نَجدِ ? لَقَد زَادَني مَسرَاكِ وَجداً عَلَى وَجدِ أأن هَتَفَت وَرقاءُ في رَونَقِ الضُحى ? عَلَى فَنَنِ غَض النباتِ مِنَ الرندِ بَكيتَ كَما يَبكي الوَليدُ وَلَم تكُن ? جَزوْعاً وأبديت الذي لَم تَكُن تُبدِي وَحَنت قَلُوصي مِن عَدَانَ إِلى نَجدِ ? وَلَم يُنسِها أَوطَانَهَا قِدَمُ العَهِدِ وقد زعموا أن المحب إذا دنا ? يمل وأن النأي يشفي من الوجد بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ? على أن قرب الدار خير من البعد وقد صدق! وقد جرب ذلك الشاعر وجربناه نحن عشاق"نجد"وعشاق هذا الوطن عندما نسافر لأيام محدودات، كيف يشتعل وهج الحنين إلى مرابعنا وديارنا. وألم تقرأ قول جدك الآخر"الصمة القشيري"الذي سكن أظلاعه الحنين إلى"نجد"وهو يتذكر تبرجها بالخزامى ووداعه الشجي عندما فارق رباها: قفا ودِّعا نجداً ومن حلّ بالحمى ? وقلّ لنجد عندنا أن تودعا بنفسي تلك الأرض ما اطيب الربى ? وما أحسن المصطاف والمتربَّعا وأذكر أيام الحمى ثم انثني ? على كبدي من خشيةٍ أن تصدَّعا وليست عشيِّات الحمى برواجع ? عليك ولكن خلِّ عينك تدمعا أو قول ذلك"الإعرابي"الذي تذيب الصخر قافية حنينه إلى"نجد"الذي لا إخاله تركه حتى تركت الإبل الحنين: أكرر طرفي نحو نجد وإنني ? إليه وإن لم يدرك الطرفُ أنظر حنيناً إلى أرض كأن ترابها ? - إذا مُطرت - عود ومسك وعنبر بلاد كأن الأقحوان بروضة ? ونوْر الأقاحي وشي بُرد محبَّر وما نظري من نحو نجد بنافعي ? أجل لا ولكنّي إلى ذاك أنظر أفي كل يوم نظرة ثم عبرة ? لعينيك مجرى مائها يتحدَّر متى يستريح القلب إما مجاور ? بحرب وإما نازح يتذكر الله ? أيها الإعرابي الوفي لأرضك، المستوطن حبها وديان قلبك.. كلنا أبناء"نجد"كذلك عندما تنأى الدار ويبتعد بنا المزار فيحترق القلب بغربة الأوار و"لام من لامك"كما نقول في"نجد". وأخيراً ألم تقرأ شوق وعشق الشاعر النجدي المعاصر عبدالله بن عبدالرحمن الزيد وهو يعزف على ربابته لحن وفائه: قفا ودعا نجد فبي مثلُ ما به ? وفيه الذي يُشفي وفيه الذي أهوى وفيه الذي إن ضاقتْ الأرض في دمي ? تذلل حتى صار أندى من النجوى وفيه الذي إن غاب عن خاطر المدى ? فلا الأرض كل الأرض تُهدي لي السلوى دعني أحيلك إلى واحد من عشرات الدواوين والكتب التي خلّدت جمال أرض"نجد"وفتنة صحرائها، ليتك تطلع على كتاب"نجد ومفاتنها الشعرية"للأستاذ الباحث خالد بن محمد بن خنين. الوقفة الرابعة: لا أدري كيف تجاهلت وتناسيت ليل نجد وجماله، ومساءات الرياض وقراها ورمال العسجد وفتنتها... لقد أسرت صحراء نجد بكل بهائها وامتدادها ونقائهاا قلوب آلاف العاشقين والشعراء من أمرئ القيس إلى غازي القصيبي... هذا الذي جاب الدنيا ثم عاد إليها يقول متغزلاً بها معبأ بالشوق إليها: وعدت إليك ياصحراء ألقي جعبة التسيار أغازل ليلك المنسوج من أسرار وأعشق في صبا نجد طيوب عرار وأحيا فيك للأشعار والأقمار أنسيت - أخي أحمد ? أن الديار ليست مناخاً أو جبالاً أو أنهاراً.. ولكنها قبل ذلك وبعده استقرار وأمان ووفاء ورائحة أم وشفقة أب وعطر تراب ومروءة رجال وشيم نساء، ألم تقرأ للشاعر النجدي المعاصر عبدالعزيز الذكير: هنا عطر أمي: ريحها وبخورها ? وكل حكاياها تداعبني هنا هنا نبضات نائمات بأضلعي ? هنا ذكريات العمر أحيا بها أنا أجل إنه يحيا بها وتحيا به، ورحم الله ذلك الإعرابي الذي عندما سئل ما النعمة؟ فقال:"الكفاية مع لزوم الأوطان"وقد صدق. الوقفة الخامسة: قد يهون هجاؤك"لنجد"، أما هجاؤك لأهلها: أهلك وعشيرتك الأقربون الذين تحدثت عنهم بأسلوب يزخر بالسخرية ويشي بالاستهزاء، فأنت تقول عنهم ? سامحك الله ? وكأن أهل نجد بدع عن غيرهم من أهل الأمصار والأقطار في طبيعة المناخ وهبوب الرياح:"لقد ألفوا سُحُبَ الغبارْ، كما ألفت الغيدُ حبَّ النُّضَارْ، والنحلُ عناقَ الأزهارْ، فوجوهُهم منه في اصفرارْ، وصدورُهم منه في احتضارْ، وعافيتُهم منه في انحسارْ"! أما أهل وعشاق واسطة العقد في ديار نجد"الرياض العزيزة"فما أقبح ما نعتها ونعتهم به، وأنت الذي تعيش بينهم في وسط الرياض فاتنة الصحراء وجوهرتها"أما أهلُ الرياض فراحتُهم في الطعوسْ، وبهجتُهم امتطاءُ الجُموسْ، وقرَّةُ أعينهم لحمُ التيوسْ، وإذا ذُكِرتْ عندهم الثمَامَهْ، أظلَّتهم من الفرح غَمَامهْ، فهم لا يعدلون بها دبيَّ ولا المنامهْ، ولا تَسَلْ عن تعلقهم بنزهة البرْ. كما يتعلَّقُ المجرورُ بحرف الجرْ، ولا عن شَغَفهم بالقهوهْ، شغفَ العمِّ سام بالقوَّهْ". ما هذا الكلام؟ أتسخر من قومك، وتهزأ بعاصمة بلدك؟ فنحن - أولاً - أهل الرياض وأحباؤها لا نعدل بها أية مدينة في الشرق أو الغرب من العالم. وأما - ثانياً - فهل نسيت أن"الرياض"حرسها الله هي منطلق وحدة المملكة التي امتدت من البحر إلى البحر، وأن رجالها هم الذين ضحوا بأرواحهم من أجل قيام دولة الوحدة والتوحيد، وأن هؤلاء الأبناء والأحفاد الذين سخرت منهم هم أحفاد أولئك الرجال، وهم الذين بنوا - مع دولتهم - نهضة الرياض التي أضحت في زمالة مع أكبر عواصم العالم تطوراً عمرانياً وصحياً وتعليمياً واجتماعياً... وهذا حسبها شموخاً وفخراً ومجداً وجمالاً. الوقفة السادسة والأخيرة: أرجو ألا تكون أسقطت خسارتك أو خسارة صاحبك بالأسهم على"نجد"العزيزة فأوسعتها ذماً وهي البريئة مما نالكما من نقص في الأموال وهبوط في أسعار الأسهم والأسواق، ولعل القارئ استشف ذلك عندما وصفت صاحبك بأسلوبك"أنه فر من السوق كما فرت من الجزار النوق ولجأ إلى جنيف ليتمتع بعطلة الصيف"، أن يفر صاحبك إلى جنيف فهذا شأنه، لكن أن تسقط آثار فراره من السوق على بلده فهذا هو المرفوض. ولقد ختمت مقالك بما نبأنا ? تصريحاً لا تلميحاً - عن السبب في هذا الهجاء والسب عندما قلت:"ورحم الله قوماً يذوقون الأمرَّينْ، فهم ضحايا نارينْ، وأسرى حصارينْ: صيفٍ ساخنْ، وسوقٍ تفورُ كالمداخنْ". لقد عرفنا السبب في هذا الهجاء والسب ولكن ? مرة أخرى - ما دخل نجد وأهلها بذلك، فنار الأسهم التي أصابتك وصاحبك بشواظها لا علاقة لها بحرارة جو"نجد"وأهلها، ولكن لو أنصفت لأكبرت أهل"نجد"الذين يجدون متعتهم بما منحهم الله من صحراء، وما حباهم الله به من وفاء للأرض وحتى بما أعطاهم الله من صبر على قسوة الطقس، ولكنهم استطاعوا أن يتكيفوا مع مناخهم فبنوا ديارهم، وأضحى لهم حضورهم واستمتعوا بما أفاء الله عليهم. وبعد: لو قال ذلك أحد غيرك ? أخي أحمد ? هذه المعلقة الهجائية لعذرناه، ولكن كيف نرضاها منك وأنت الذي شربت ماء غمامها، واستظليت بسمائها، واحتضنتك أرضها، وطعمت رطب نخيلها، أو كما يطلق عليه"نفطها البني"، إنني لا أريد أن أتهمك بالجحود، ليتك تذكرت وأنت تكتب"معلقتك الهجائية"مقولة الأمير سلمان بن عبدالعزيز عاشق نجد وأميرها عندما قال في رده على أحد الزملاء الكتاب:"من لم يكن وفياً لمسقط رأسه فإنه ليس وفياً لوطنه"وأربأ بك ? أخي أحمد ? من ذلك، ولكن سحر الكلمات وتكلف السجعات لعلها هي التي جرت إلى هذه الكلمات القاسيات. * كاتب سعودي وعضو مجلس الشورى