لماذا يستهوينا أدب المذكرات؟ وان كان أحيانا يدور حول جوانب محددة مثل الخبرة المهنية، أو فترة من حياة انسان؟ هل لأنه يتحدث عن مشاهير بصورة ما؟ أو ربما لأنه ينقل خبرة انسانية متكاملة؟ أو لأننا نريد ان نعرف أنفسنا عبر الآخرين؟ وربما لأنه ينطلق من وقائع حقيقية، وأحيانا يكون الواقع أغرب من الخيال. لا أدري ولكني شخصيا يستهويني هذا النوع بشدة بيد أن مأخذي على الكثير من المذكرات العربية ان الكاتب يخفي الجوانب السلبية خصوصا فيما يتعلق بشخصه او عائلته، وربما لأن ثقافتنا العربية الراهنة لم تميز بعد بين الذاتي، والموضوعي، والمجرد. وكثيرا ما يبالغ الكاتب في تمجيد ذاته وطيب محتده لينطبق عليه المثل الشعبي كل بعقله راض، بس بحظه لا الا ان هناك استثناءات قليلة هنا وهناك مثل محمد شكري وادوارد سعيد ويوسف شاهين في مذكراته الفيلمية . الحوار مع الآخر: بعد 20 عاما من وفاة والدي وديع ها أنا أجد نفسي اليوم أذرف دموع الأسف والندم على كلينا، وعلى تلك السنوات من الصراع الخفي بيننا حين طغى تزمته واصراره على تحقيق الأفضل، وسلطته القوية، وعدم قدرته على اظهار أي مشاعر على الاطلاق، كل ذلك مقرونا بشعوري بالرثاء لحالي، واتخاذي مواقف دفاعية طوال الوقت,, لأن تلك السنوات باعدت بيننا وأحدثت هوة واسعة بيني وبين والدي, فجأة أصبح في وسعي ان أرى الآن كيف كافح وناضل طوال تلك السنين للتعبير عن نفسه، وتحقيق النجاح بطريقة لم تؤهله لها خلفيته ومزاجه وظروفه، لقد سد الصمت المطبق الدائم تلك الفجوة بيني وبين والدي، حتى واجهت الدموع في مكتب الطبيب النفساني, كانت الدموع مسامحة له رغم كل ما صدر عنه، واعترافا بفضله في الحرص والعناية والتربية التي أولاها لابنه الوحيد بغض النظر عن خشونته وقسوته. منذ عام تقريبا قرأت في مجلة الوسط العدد 408 الصادر في 28/11/99 عرضا لمذكرات الكاتب والمفكر الفلسطيني العربي الامريكي ادوارد سعيد الأستاذ في جامعة كولمبيا في نيويورك وصاحب كتاب الاستشراق والاستشراق معكوسا ذي الضجة العالمية والتي لم تخمد حتى الآن. في ذلك الحين ظهرت المذكرات باللغة الانجليزية وعنوانها خارج المكان ولكن المحرر ترجم الفقرة الظاهرة اعلاه فاحتفظتُ بها لأهميتها في نظري والخاصة بتخصصي المهني، ومؤخرا ظهرت المذكرات باللغة العربية ترجمة فواز طرابلسي مع مقدمة خاصة بهذه الترجمة كتبها ادوارد سعيد الا ان ترجمة المحرر للفقرة اعلاه راقت لي أكثر مما ترجمها مترجم المذكرات. ما يشد في مذكرات سعيد هو ذلك المونولوج الداخلي الذي يلون معظمها فلم يكن يتحدث كيف راح وأين جاء الا وقرنها بردود افعاله الداخلية من مشاعر وافكار حتى إنني تساءلت هل سيتبع هذا الخطاب اذا لم يذهب للعلاج النفسي التحليلي؟ الا انني اقول بأنه ربما اوردها ولكن دون ان يوظف دلالتها في حياته. ولد ادوارد في القدس وأمضى فيها بعض السنين وأمضى جل طفولته ومراهقته في القاهرة مع رحلات صيفية طويلة الى فلسطينولبنان ولما كان أبوه يحمل الجنسية الأمريكية باعتباره قد خدم في الجيش الامريكي فقد كان واخوته أمريكيين وكان الاب يؤكد على هذه الجنسية ويبدو مزهوا بها بالاضافة الى ذلك كانت دراسته في القاهرة في مدارس بريطانية في بلد يخضع للاحتلال البريطاني كل هذه العوامل جعلته يعيش خارجيا خارج المكان لقد كان طوال شبابه يبحث عن هويته فوجدها بعد حرب 67 في عمقه الفلسطيني العربي بالرغم من جنسيته الامريكية. أما داخليا في أعماق نفسه، فقد كان يعيش أيضا خارج المكان، كان الأب صلبا خشنا، عمليا في حياته، كما كان من التجار المثابرين ينجح ثم يهوي الى الصفر فيعاود النهوض من جديد بعناد لينجح مرة اخرى ولعل صفاته هذه جعلته يبرمج حياة اطفاله وبالذات ولده الوحيد ليكون نسخة منه على نحوٍ ما أو على الأقل ليواصل القيام برحلته المهنية، ولعل هذا ما جعله يتجاهل المشاعر والتعامل العاطفي، بالتأكيد كان يحمل عواطف ومشاعر تجاه أسرته ولكن روحه العملية جعلته لا يفصح عنها ولا يرى أهمية الاعتراف بها والتعامل معها. وبالرغم من اقترابه النسبي تجاه أمه إلا أنها لم تكن تزيده إلا تشوشا وإرباكا فقد كانت من النوع الذي يعرف بالسلبي العدواني Passive. aggressive اذا كانت الامور بهذا السوء بينكما نعم يجب ان تطلقها بالتأكيد، غير انها أردفت فورا ولكن الزواج عندنا عقد أبدي وسر من الأسرار المقدسة وكنيستنا لن تعترف ابدا بالطلاق وتلك اقوال غالبا ما كانت تصعقني الى حد الشلل هذا النوع من الشخصيات يرسل في تواصله اللفظي وغير اللفظي رسائل مزدوجة ولم يكن ادوارد الطفل او اليافع بحاجة الى مزيد من التشوش وهو الذي يعاني من الارباك في علاقته بأبيه. ان المذكرات بحق حوار مع ذلك الآخر الذي يشكل جزءا منا ويسكننا دون ان نتعرف عليه، وبدون الصلح معه نفقد دورا كبيرا من السعادة. الوطن فطرة: قبل اثني عشر سنة ونيف تناقلت وكالات الانباء ان فتاة لبنانية في الثامنة عشرة من عمرها تدعى سهى بشارة اطلقت الرصاص على انطوان لحد العميل الاسرائيلي العتيد وقائد جيش الفزاعات المعروف بجيش لبنان الجنوبي ربما الفزاعة أكرم، اذ تنبع قوتها من التمويه فتبث الخوف في الطيور ولكن فزاعات لحد تستمد قوتها من دعم اسرائيل لها، فاذا ما زال تهاوت زرافات من لاجئين في اسرائيل ووحدانا في فرنسا كان ذلك الخبر مبعثا للبهجة في قلوبنا غداة يوم الذل العربي الذي بدأ في كامب ديفيد وأضحى في حصار بيروت عام 82م. خرجت سهى من معتقل الخيام بعد عشر سنوات لتروي حكايتها الفذة في كتاب بعنوان مقاومة بخطاب لا تنقصه الصراحة يقارب الصراحة ويجانب الادعاء. بدأت سهى طفولتها بالحرب الاهلية الغبية التي مزقت لبنان فتنقلت مع أسرتها من مكان لآخر وعند الاجتياح الاسرائيلي واحتلال الحزام الجنوبي منه طردت من مدينتها الجنوبية ومع ان سهى تنتمي الى عائلة محسوبة على الحزب الشيوعي فان ذلك لم يعنِ عندها شيئا ولم يظهر وعيها السياسي جليا الا بعد الاجتياح الاسرائيلي حينها بدأت تلك الفتاة ذات الاثني عشر ربيعا والمتفوقة دراسيا خصوصا في الرياضيات ولاعبة الشطرنج البارعة والرياضية الماهرة تعرف هموم الوطن وبعد سنوات قررت ان تغتال لحد رأس الأفعى فعادت الى الجنوب وساعفها الحظ بأسرع مما كانت تتمنى وتتخيل لتدخل بيت لحد مدربة رياضية لزوجته. وتسرد سهى معاناتها في المعتقل والتعذيب ببساطة وهدوء وتصميم بعيدا عن أية شعارات ايدلوجية تمتلىء بها مذكرات المناضلين من كل لون وملة لم تدَّعِ سهى النضال منذ نعومة أطفالها ولم تنسب لأهلها بطولات تاريخية بل تحدثت بصراحة عن أدوارهم المتواضعة وعن أمها التي كانت تنأى عن السياسة وتسخر منها. [email protected]