سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كتابه "خارج المكان" يروي سيرته من القدس الى القاهرة الى بيروت الى أعرق جامعات أميركا ادوارد سعيد الغريب الممزق بين نجاحه الأكاديمي وكراهيته لدور أميركا
بدأ الدكتور ادوارد سعيد تأليف كتابه "خارج المكان" قبل خمس سنوات حين أبلغه الأطباء بأنه مصاب بسرطان الدم اللوكيميا وان احتمال شفائه من هذا المرض العضال مستبعد، لا سيما أن والديه توفيا إثر اصابتهما بمرض السرطان. لكن الاهتمام بتفصيلات الأمور ودقائقها يستحوذ عليه إلى درجة مطلقة، فيسجل لنا بعناية فائقة وإسهاب بالغ رحلته في هذه الدنيا: منذ مولده في منزل الأسرة في الجزء الغربي من مدينة القدس، مروراً بأيام الدراسة فيها، ثم في القاهرةوالولاياتالمتحدة، وبصورة خاصة سنواته في جامعة برنستون حيث أعد اطروحته عن أندريه غيديه وغراهام غرين حتى يصل بنا إلى سنواته في جامعة هارفارد حيث اختار لاطروحته شخصية جوزيف كونراد قبل أن يصبح أستاذاً للغة الانكليزية والأدب المقارن في واحدة من أعرق الجامعات في العالم وهي جامعة كولومبيا في نيويورك. كان إدوارد الطفل الأول والابن الوحيد لوالديه. وكان والده رجل أعمال ناجحاً، لكنه "فقد كل شيء" خلال الاضطرابات التي وقعت في القاهرة في مطلع العام 1952، ووجد نفسه مجبراً على "البدء من جديد" وتحقيق النجاح والرخاء مرة ثانية. ترعرع إدوارد في كنف والد يصرّ على إحراز النجاح دائماً، وأم مزاجية. ولهذا مال الصبي إلى الشقاوة والتمرد، بل طردته الكلية التي كان يدرس فيها فكتوريا كوليدج في مصر لفترة قصيرة. وفي معرض حديثه عن أيام دراسته في كلية فكتوريا يقول إن عريف الفصل كان "بلطجياً" اسمه عمر شلهوب - الذي يعرفه العالم اليوم باسم عمر الشريف! - وليس لدى إدوارد ما يمتدح به معلميه لأنه يتذكر معظمهم بإحساس من الأزدراء أو عدم التقدير. كما يصف إدوارد سعيد في كتابه كل مناسبة تعرض فيها للعقاب أو الضرب بالعصا في المدرسة ويسجل مشاعره ازاءها. ويقول عن المدرسة الأميركية الخاصة التي التحق بها: "كانت حياتي اليومية في المدرسة الداخلية التي تضم 600 طالب خشنة وقاسية ومقيتة. بل كانت في بعض الأحيان لا تُطاق ولا يمكن احتمالها. إذ لم تكن هناك أي خلفية أو أرضية ثقافية لذلك النوع من الصداقة الذي اختبرته وعشته في كلية فكتوريا". واكتشف ان زملاءه الطلاب كانوا يفتقرون إلى خصائص الفردية الشخصية أو التميّز أو الأصالة أو المرونة. ويعزو ذلك إلى "... قدرة الحياة الأميركية الاستثنائية الرهيبة على فرض التجانس الذي تهيمن فيه شبكات التلفزيون والملابس نفسها والايديولوجيا الموحدة ذاتها في الأفلام السينمائية والصحف والمجلات ورسوم الكاريكاتور وما إلى ذلك، وبالتالي على فرض القيود على عملية التفاعل المعقدة للحياة اليومية وحصر هذه العملية التفاعلية في أدنى حدود التفكير والتأمل الذي لا تقوم فيه الذاكرة بأي دور على الاطلاق". ويتناول فصول حياته الغرامية الصعبة، كما يسجل لنا أن والده وديع سعيد عاش في الولاياتالمتحدة عشر سنوات والتحق بالجيش الأميركي وحارب في صفوفه في الحرب العالمية الأولى بعدما حصل على الجنسية الأميركية التي ورثها إدوارد وشقيقاته الأربع عنه. لكن والدته لم تحصل على الجنسية لأنها كانت ترفض البقاء في الولاياتالمتحدة لأكثر من أشهر قليلة كلما زارتها. ولما كانت والدته "لاجئة فلسطينية" من مدينة الناصرة، فقد كانت تستخدم وثيقة سفر تمنحها لها الأممالمتحدة كل مرة ترغب في زيارة عائلتها، إلى أن تمكن السفير اللبناني شارل مالك الذي كان من أصهارها من منحها الجنسية اللبنانية. ويروي كتاب إدوارد سعيد الجديد قصة الحياة في القدسوالقاهرةولبنان، حيث استأجرت الأسرة بيتاً في منطقة المتن الشمالي معقل الزعيم الكتائبي الراحل الشيخ بيار الجميل. وهناك أحب إيفا عماد، لكن والديه اعترضا بشدة، لأنها كانت تكبره بسبع سنوات. ويقول عن والدته: "بلغ من محبة والدتي لي أنها اعتبرت أي ارتباط عاطفي بيني وبين أي فتاة أخرى خطراً على سلطتها واستحواذها عليّ". ولم تكن ايفا الوحيدة التي ارتبط عاطفياً بها، إذ يقول إنه عاش "علاقات عاطفية عاصفة كثيرة" قبل أن ينتهي به الأمر إلى الزواج وانجاب ولد وبنت. يتحدث إدوارد سعيد عن الأثر الذي تركته فيه عمته نبيهة التي كرست حياتها لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين في مصر. وكانت القاهرة المكان المفضل لديه. لكنه غادرها بعدما وقع نيابة عن والده على حوالة مالية اتضح في ما بعد أنها كانت مزورة، ولم يعد إلى العاصمة المصرية التي تركها العام 1958 إلا في 1973 لأنه كان يخشى الاعتقال. أحس البروفسور سعيد طوال حياته في أميركا بتنازع شديد في أفكاره ومشاعره، لأنه كان يتمزق بين النجاح الباهر الذي أحرزه وأصبح معه واحداً من ألمع الأكاديميين الأميركيين، وبين كراهيته ومقته الشديدين لدور أميركا في حماية الصهيونية والدفاع عنها. فهو يمقت بشدة الرئيس ترومان ويصبّ مشاعر الازدراء والاحتقار على مواقف ايليانور روزفلت ومارتن لوثر كينغ لأن حملتهما من أجل "حقوق الإنسان تتناقض كلياً مع تأييدهما القوي لإسرائيل ومع معاداتهما للشعب الفلسطيني". وفي الوقت نفسه يسجل ضيقه بعدد من أوجه الثقافة العربية، بما في ذلك الموسيقى مع أنه عازف ممتاز للموسيقى الكلاسيكية على البيانو. ومع هذا فإنه يشعر بأنه لا ينتمي إلى أميركا، بل يشعر بأنه غريب عنها. ولهذا فإن كتابه الجديد محاولة منه للتأكيد على فلسطينيته وعلى قبولها مثلما هي، وقبول حقائق حياته ابان الطفولة، مثلما هو أيضاً محاولة لقبول تصرفات والديه، لا سيما والده، ولفهم أسباب تلك التصرفات والمعاملة التي لقيها ادوارد. يقول المؤلف: "بعد 20 عاماً من وفاة والدي وديع، ها أنا أجد نفسي اليوم أذرف دموع الأسف والندم على كلينا، وعلى تلك السنوات من الصراع الخفي بيننا حين طغى تزمته وإصراره على تحقيق الأفضل وسلطته القوية وعدم قدرته على إظهار أي مشاعر على الاطلاق، كل ذلك مقروناً بشعوري بالرثاء لحالي واتخاذي مواقف دفاعية طوال الوقت... لأن تلك السنوات باعدت بيننا وأحدثت هوة واسعة بيني وبين والدي. فجأة أصبح في وسعي أن أرى الآن كيف كافح وناضل طوال تلك السنين للتعبير عن نفسه وتحقيق النجاح بطريقة لم تؤهله لها خلفيته ومزاجه وظروفه. لقد سدّ الصمت المطبق الدائم تلك الفجوة بيني وبين والدي، حتى واجهت الدموع في مكتب الطبيب النفساني. كانت الدموع مسامحة له على رغم كل ما صدر عنه، واعترافاً بفضله في الحرص والعناية والتربية التي أولاها لابنه الوحيد بغض النظر عن خشونته وقسوته". في 1991 رتب إدوارد سعيد عشية انعقاد مؤتمر مدريد اجتماعاً في لندن للشخصيات الفلسطينية في الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا. وحين يتناول هذا الاجتماع في كتابه الجديد يتذمر من "التكرار الذي لا ينتهي للآراء المألوفة وعجزنا عن تحديد هدف جماعي واحد وعن عدم رغبتنا في الاستماع إلى أحد غير أنفسنا. وباختصار لم يسفر ذلك الاجتماع عن شيء سوى تجسيد الفشل الفلسطيني مثلما أبرزته معاهدة أوسلو 1993". ويقول سعيد إنه لم يدخل المعترك السياسي ولم يصبح جزءاً من الحركة الفلسطينية إلا بعد العام 1967، وكان في الثانية والثلاثين من عمره. ويضيف: "دخلت الخريطة الجديدة للشرق الأوسط كجزء من الحركة الفلسطينية التي ظهرت في عمّان ثم في بيروت بعدها... كانت تلك خبرة جديدة اعتمدت على ذلك الجانب الخفي المتأرّق من حياتي السابقة: معاداة الفردية أو التسلط الفردي في الحكم والحاجة إلى كسر حاجز الصمت الاكراهي المفروض". وكان والداه يتعمدان عدم تشجيعه على الحديث عن فلسطين أو في السياسة. لكن حياة والدته في لبنان بعد وفاة والده غيّرت ذلك. يقول سعيد: "حين عاشت والدتي أيام الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 أبدت روحاً رائعة من التندر والنكتة والصلابة. كما أنها اعتنت بالبيت الذي كانت تعيش فيه أصغر شقيقاتي غريس مع شخصين دمرت الصواريخ الإسرائيلية شقتهما وهما إبراهيم أبو لُغد وسهيل ميعاري... كانت الحياة في ذلك المنزل مظهراً مذهلاً من مظاهر الشجاعة تحت وابل الصواريخ والقنابل. ومع هذا فكلما حاولت الحديث إلى والدتي في السياسة أو عن الحقائق السياسية المعقدة التي أدت إلى مشاكلنا اليومية كانت تصدّني وتأمرني بالاهتمام بمواضيعي الاكاديمية البحتة... كانت تقول إن السياسة في العالم العربي تدّمر الناس الطيبين المخلصين من أمثالك". إن كتاب البروفسور إدوارد سعيد كتاب أدبي جداً أو بمعنى آخر انتاج أدبي رائع، لكنه في الوقت ذاته كتاب غير مألوف يتميز بالأحاسيس السلبية، فقد كتب: "حتى هذا اليوم لا أزال أشعر بأنني بعيد عن الوطن. وهذه المذكرات من منظور معين تجسيد جديد لخبرة الرحيل والانفصال والفراق لأنني أحس أن ثقل الأيام وضغوطها بدأت تزداد وتتسارع وان الزمن أخذ ينفد. ومجرد إحساسي بأنني اعيش بصورة مؤقتة في نيويورك على رغم مرور سبع وثلاثين سنة على اقامتي فيها، هو خير تأكيد لأحاسيس الغربة وعدم الانسجام لا للفوائد والمزايا التي حصلت عليها طوال تلك السنين هنا".