لعلّ من الجبن- أو المجالة، أو الهوى- عدم الاعتراف بأن الشِّعر العامّيّ يحمل إلى بطالته الفكريّة والحضاريّة أدواء ثقافيّة شتّى، لا تخفى على لبيب أو غير لبيب، أبرزها النَّعرة القَبَليّة، وما توقظه من ضغائن، وما تنطوي عليه من قِيَم غير حضارية، ومن أفكار مغلوطة. وها قد أنشأتْ بعض القبائل قنواتها الفضائيّة لترسيخ الخطابات العشائريّة، ولخلق اهتمامات لا تتفق وعصرنا. بل إن هناك أصواتًا حماسيّة تطالب بإدراج بعض الشِّعر العامّي في مناهج التعليم للمراحل التعليميّة الدُّنيا، في دول الخليج والجزيرة العربيّة. ويبدو هنا تركيزٌ مطّرد، داخليّ وخارجيّ- غير بريء- لتفتيت القِيَم المبدئيّة في هذه المنطقة تحديدًا، بما في ذلك مبدأ المحافظة على اللغة العربيّة، والهويّة العربيّة، تتوالَى تحت شعارات متنوّعة. ولئن تكن النداءات قد لُبّيت رسميًّا في بعض الدول، فإنها ملبّاة بصفةٍ غير رسميّة في دول أخرى، في ما يُسمّى بالمناهج غير الصفيّة. وهذا أمرٌ مؤسفٌ جدًّا، يدلّ على قِصَر نَظَرٍ، وتحكيم عواطف، ورؤية سطحيّة إلى خطورة العامّيّة، لغةً وتربيةً. وقد تأتي مسوّغات مثل هذا أحيانًا في شكل ذريعةٍ كالمحافظة على الأصالة والوطنيّة، وضرورة إعطاء الطفل جرعة من (التخلّف) قبل فوات الأوان! كأن الأصالة والوطنيّة كامنتان في تشرّب الأدب العامّي، فيما الأصالة والوطنيّة بضدّ العامّيّة أصلاً وفصلاً! لكنها مغالطات الأفكار والدعاوى، من بعض ذوي الهوى، أو الانحباس الحضاري. وعليه، فلتُضمّن مناهج بعض الدول الشِّعر الحُميني مثلاً، وبعضها قصائد العَرْضَة، وأخرى ألوان من المسحوب، أو الهجيني، أو المروبع، أو القلطات، وهلمّ جرّا.. جرّا! والواقع إن هذا بضدّ كل التطلّعات الوطنيّة والقوميّة والحضاريّة للأمّة العربيّة، دولاً وشعوبًا، وهو نكوص إلى التقوقع القُطريّ، والتمرحل التاريخيّ، واستثارة النعرة الانفصاليّة لكلّ دولة عربيّة عن جاراتها. ذلك أن الوطنيّة لا تتجلّى- في بلدٍ كالسعودية، على سبيل المثال- في شِعر العَرْضَة أو الشِّعر الحربي العامّي، ولكنها تتجلّى في الانتماء إلى لغة العرب الأصليّة، التي انبثقت من هذه الأرض، حاملةً النور والهُدى والأدب والحضارة إلى كلّ العالم، والتي أصبح كلّ مَن يحمل هويّة «عربيّ» على وجه الكُرة الأرضيّة يدين بذلك إلى منبع العروبة والعربيّة: جزيرة العرب، مهد الضاد ومنطلق الرسالة، وإلى ذلك الدِّين الذي اتّخذ العربيّة آيته الأولى ومعجزته العظمى. تلك هي القيمة الوطنيّة الحقيقيّة للمملكة، وذاك هو جذرها اللغويّ والتاريخيّ، الذي هو أثمن في اقتصاديات الحضارات- بما لا يقاس- من كلّ النفط الكامن في أحشائها. وهو جذرٌ ذهبيّ يحمل قِيَمها الجوهريّة الخالدة، زمانًا ومكانًا، لا تلك اللهجات المتناثرة المتناحرة، كما كان أهلها متناثرين متناحرين قبل توحيد المملكة، على يد المغفور له الملك عبدالعزيز، تحت شهادة التوحيد «لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله»، بما يعنيه ذلك التوحيد من عودة إلى الأصل الجامع للعرب المسلمين، لغةً وعقيدةً وثقافةً، لا العودة مئة عام أو مئتين من الانحطاط، لغةً وعقيدةً وثقافة. تلك هي مقوّمات الهويّة الوطنيّة، والعالميّة في آن، للمملكة العربيّة السعوديّة، قلب جزيرة العرب، بل قلب العروبة والإسلام. أمّا الموروثات العامّيّة- التي يُضفَى عليها جزافًا نعت «الشعبيّة»- فلا تعدو موروثات نَبَتَتْ ضمن ظروفٍ تاريخيّةٍ بائسة، ليست محلّ اعتزازٍ، وليس فيها من مقوّمات الفخار إلاّ القليل؛ إنْ وُجد صالحها في مستوى من المستويات فما ينفكّ مشوبًا بالفساد في مستويات أُخَر. فمَن كانت غاية همّته ومنتهى تطلّعاته الدوران في فَلَك ذلك الماضي التعيس وتلك الموروثات المتواضعة، فقد ضاق وعيًا عن استيعاب مَن يكون؟ وما عُمقه الثقافيّ الاستراتيجيّ؟ وأين يقع بُعْدُه الحضاريّ العالميّ؟ غير أن العواطف غلاّبة، والتعصّبات مراتع الهلاك، وفي اتّباع السائد الاجتماعيّ عوامل شتّى كفيلة- عادةً- بتحطيم المبادئ، وإن أخرب المرء بيته بيديه! أمّا حُمول الأدب العامّي من القَبَليّة، فحدّث عنها ولا حرج! وهل فَتَك بالعرب والمسلمين أشدّ من القَبَليّة؟! فاستحياء الأدب العامّيّ هو استحياء للقَبَلِيّة، شئنا أم أبينا؛ إذ هما صنوان لا ينفصلان، اللهم إلاّ ظاهرًا. وإنك لو تأمّلت- اعتبارًا بالتاريخ- في ما دار بين المسلمين من تمزّقٍ منذ صدر الإسلام-- ودع عنك ما قبل ذلك-- وإبّان العصر الأمويّ، وما تلاه، لرأيت الجمر القَبَليّ في العيون. فبين قبيلة قريش، على سبيل المثال، وقبيلتَي الأوس والخزرج، ألا ترى ذلك الجمر؟ أ ولم تُؤْوِ قبيلتا الأوس والخزرج محمّدًا فارًّا من قريش؟! أ ولم تنصره، حتى كَسَر شوكة قريش، سيّدة العرب، ومأرز دينها وآلهتها واقتصادها وسياستها؟! أو ليستا السبب في تمريغ قريش في عار الهزيمة، في بدرٍ وغير بدر؟! ما كانت لتنسى قبيلةٌ كقريش ذلك، ولا ليسكت (أبو جهلها)، ولا لتُشفَى صدورها أبدًا، وإنْ كان منها نبيُّ الرحمة، وكان النصر والهزيمة إنما تمّا باسمه، وعلى يديه، وتحت راية دينه الجديد. ذلك ما لا تفهمه القبيلة، وإنما تفهم أن عصبيّتها قد أُذلّت بفعل عصبيّة مقابلة أو بتحالفها، ولا بدّ حينئذٍ من الثأر، ولو بعد حين، ولا بُدّ من استعادة الكرامة، وإنْ تحت شعارٍ تمويهيّ جديد. وما أظن هاهنا أحدًا ينكر ما كان بين شعراء قريش وشعراء الأنصار من تهاجٍ قَبَليّ مرير، ألجأ عُمَر بن الخطّاب إلى اتخاذ مواقفه الحازمة في حقّ الشعراء. فلقد كان لشعراء قريش في الإسلام- كضرار بن الخطّاب، وعبدالله بن الزبعرى- ذكرياتُ هجاءٍ في الأنصار، ولمّا شكا حسّان بن ثابت إلى عُمَر ذلك استدعاهما، وأَذِنَ لحسّان أن يهجوهما بدوره حتى يشتفي. روى (الأصفهاني)(1) في «أخبار حسّان بن ثابت» قال: «نهى عُمَرُ بن الخطّاب الناسَ أن يُنْشِدوا شيئًا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شَتْمُ الحيّ بالميّت، وتجديدُ الضغائن، وقد هَدَم اللهُ أمرَ الجاهليّة بما جاء من الإسلام. فقَدِم المدينةَ عبدُالله بن الزِّبَعْرَى السَّهْمِيّ، وضِرارُ بن الخطّاب الفِهريّ ثم المُحاربيّ، فنزلا على أبي أحمد بن جَحش، وقالا له: نُحِبُّ أن تُرسِل إلى حسّان بن ثابت حتّى يأتيك، فنُنشدَه، ويُنشدنا ممّا قلنا له وقال لنا. فأرسل إليه فجاءه؛ فقال له: يا أبا الوليد، هذان أخواك ابن الزِّبَعْرَى وضِرارٌ قد جاءا أن يُسمِعاك وتُسمِعَهما ما قالا لك وقلتَ لهما. فقال ابنُ الزِّبَعْرَى وضرارٌ: نعم يا أبا الوليد، إنّ شِعرك كان يُحتمل في الإسلام ولا يُحتمل شِعرُنا، وقد أحببنا أن نُسمعك وتُسمعنا؟ فقال حسّان: أ فَتَبْدآن أم أبدأ؟ قالا: نَبدأ نحن. قال: ابتَدِئا؛ فأنشداه حتى فار فصار كالمِرْجَل غَضَبًا، ثم استَويا على راحلتيهما يُريدان مكّة؛ فخرج حسّان حتى دخل على عُمَر بن الخطّاب فقصَّ عليه قِصّتهما وقِصّته؛ فقال له عُمَر: لن يذهبا عنك بشيءٍ، إن شاء الله.. وأرسل مَن يَرُدُّهما، وقال له عمر: لو لم تُدْرِكْهما إلاّ بمكّة فارْدُدهما عليّ! وخرجا، فلمّا كانا بالرَّوْحاء، رَجَعَ ضِرارٌ إلى صاحبه بكُرْهٍ، فقال له يا ابن الزِّبَعْرَى: أنا أعرفُ عُمَر وذَبَّهُ عن الإسلام وأهله، وأعرفُ حسّان وقِلَّة صبره على ما فعلنا به، وكأنّي به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا، فأرسَلَ في آثارنا وقال لرسوله: إنْ لم تَلْحَقْهما إلاّ بمكّة فارْدُدهما عليّ! فارْبَحْ بنا تَرْكَ العناء وأَقِمْ بنا مكانَنا! فإنْ كان الذي ظننتُ، فالرجوع من الرَّوْحاء أسهل منه من أبعدَ منها، وإنْ أخطأ ظنّي، فذلك الذي نُحبّ، ونحن من وراء المُضيّ! فقال ابن الزِّبَعْرَى: نِعْم ما رأيتَ! قال: فأقاما بالرَّوْحاء، فما كان إلاّ كمرّ الطائر حتّى وافاهما رسولُ عُمَر فردّهما إليه؛ فدعا لهما بحسّان، وعُمَر في جماعةٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لحسّان: أَنْشِدْهما ممّا قلتَ لهما؛ فأَنْشَدَهما حتّى فرَغ ممّا قال لهما فوقف. فقال له عُمَر: أ فَرَغْتَ؟ قال: نعم. فقال له: أَنْشَدَاكَ في الخَلاء وأَنْشَدْتَهما في المَلأ! وقال لهما عُمَر: إنْ شئتما فأقيما، وإنْ شئتما فانصرفا! وقال لمَن حَضَرَه: إنّي قد كنتُ نَهيتُكم أن تذكروا ممّا كان بين المسلمين والمشركين شيئًا؛ دَفْعًا للتَّضاغُن عنكم وبثِّ القبيح فيما بينكم، فأمّا إذْ أَبَوْا، فاكتبوه، واحتفظوا به! فدَوَّنوا ذلك عندهم. قال خَلاّد بن محمد: فأدركتُه، واللهِ، وإنّ الأنصارَ لتُجَدِّده عندها إذا خافت بِلاه.» ولا أظن أحدًا ينكر كذلك العصبيّة القَبَلِيّة التي كانت تُشكّل شخصيّة يزيد بن معاوية، وما كان يواجه به الأنصار خاصّة، وما كان يُغري الشعراء به من هجائهم، حتى إذا لم يجد من شعراء المسلمين من يقبل هجاءهم استعان على ذلك بالأخطل، الشاعر النصرانيّ. ولا يخفَى في المقابل ما كان يُعمله في الأمويين شعراءُ الأنصار، دفاعًا وهجومًا، مِن مثل ما كان من هجاء عبدالرحمن بن حسّان بن ثابت. بل ما موقعة الحَرَّة، وما جَرَت فيها من تصفيات، من هذا المعترك القَبَلَيّ- الذي كان الشِّعرُ نِفطُه- بمنأى. إنها القَبَلِيّة، إذن، وما يُضرمه الشِّعر من أوارها، قديمًا وحديثًا، تلك العجوز الشمطاء التي يلعب بخصلاتها اليومَ ساقةُ الناس وسراتهم، دونما تفكّر فيما تعنيه ويعنيه شِعرها في التاريخ العربيّ عامّةً، وفي (لا وعينا القَبَليّ) الجَزيريّ خاصّةً، وما يمكن أن تجترمه الأيدي جرّاءَ ذلك بحقِّ أوطانها وأمّتها! (1) (1983)، الأغاني، تح. لجنة من الأدباء (بيروت: دار الثقافة)، 4: 144- 145.http://khayma.com/faify