إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    إطلاق أول «بودكاست» في المسؤولية المجتمعية    اجتماع قادة الصناعة المالية الإسلامية في اللقاء الاستراتيجي الثاني لمناقشة الابتكار المستدام    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    بهدفين في الدوحة| الاتفاق ينفرد بالصدارة عبر بوابة العربي القطري    قمة آسيا للذئاب    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    سعود بن بندر يستعرض إستراتيجية «تطوير الأحساء»    الزميل رابع يحتفل بزفاف إبنه د. صالح    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    أمير الرياض يرفع الشكر والتقدير للقيادة على إطلاق «مشروع قطار الرياض»    ميقاتي يحذر النازحين من العودة السريعة.. وإسرائيل تعلن اعتقال 4 من حزب الله    وزير الرياضة : 80 فعالية عالمية زارها أكثر من 2.5 مليون سائح    البنيان: رصدنا أكثر من 166 مشروعا تعليميا في 2025    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    هؤلاء هم المرجفون    اكتشاف علاج جديد للسمنة    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المبحث الثاني: الملك المخطط 2 - 5
قراءة إدارية في سيرة الملك المؤسس

تناول المبحث الأول في مقال سابق شخصية الملك المؤسس كمدخل شمولي لأسلوبه في الإدارة, وقد انتهينا بأن أسلوبه، يرحمه الله، تميز بالموقفية والتحويلية المرتكزة على ثلاثة محاور أساس هي: شخصيته، والموقف، ونوعية الرجال الذين اعتمد عليهم في بسط سلطان الدولة وإشاعة الأمن والاستقرار في ربوع البلاد, فإلى أي مدى مكنت هذه الركائز الملك المؤسس من ممارسة وظائف أو عناصر الإدارة كما نعرفها اليوم من تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة؟ هذا ما سوف ينصرف اليه البحث في هذا المقال وذلك بتسليط الضوء على أولى هذه العناصر وسنوالي بحث باقي العناصر في مقالات لاحقة بإذن الله.
تقديم:
يجمع علماء الإدارة بأن التخطيط هو عملية استشراف المستقبل والاستعداد له بتسخير الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف، فالتخطيط هو مرحلة التفكير التي تسبق التنفيذ.
ولتتم عملية الاستشراف على نحو صحيح فلابد للمخطط أن يكون صاحب رسالة واضحة ورؤية سليمة لما ستكون عليه الأحوال في المستقبل في ضوء افتراضات عملية ومعلومات واقعية دقيقة، لذا فالاستشراف ليس مسألة تكهن أو خيال بعيداً عن الواقع بل لابد وأن يرتكز على الحقائق بإيجابياتها وسلبياتها، حلوها ومرها، المؤكد منها وغير المؤكد.
فالملك عبدالعزيز رحمه الله كان صاحب رسالة mission جليلة لم يحد عنها قيد أنملة في كل ما اتخذه من قرارات، وهي إيمانه العميق بالله قبل كل شيء وتحكيم شرع وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، فقد ظهر ذلك بجلاء في كل خطاب سياسي أو رسالة أو اتصال مباشر بالجمهور، فربط الدين بالدولة، والايمان بالسياسة، والعقيدة بالفعل والعمل, كما أنه كان صاحب رؤية مستقبلية vision واضحة ومحددة تجاوزت استرداد مجد الآباء والأجداد إلى تصحيح العقيدة وتحقيق الأمن والاستقرار وإرساء أركان الدولة السعودية الحديثة, فتوافر هذين العنصرين: الرسالة والرؤية كانا من أهم أسباب النجاح الذي حالفه رحمه الله في جميع أعماله,ولعل من أبرز المجالات وأهمها التي اتضحت فيها قدراته الإدارية النادرة هي في مجال التخطيط بكل أبعاده السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
في المجال العسكري:
يصعب الفصل بين خططه العسكرية يرحمه الله وأهدافه السياسية، فقد كانت الأولى أداة تنفيذ للثانية, ففي جميع المعارك التي خاضها شخصياً يرحمه الله كان مخططاً ماهراً بدءاً من وضع استراتيجية عامة للمعركة وانتهاء بأدق تفاصيلها, ومما يدل على حنكته وبعد نظره سعة الرؤية إدراكه منذ البداية أنه لا يخطط لمعركة تنتهي بنهايتها مسيرته سلباً أو إيجابا، بل كان يخطط لحكم واسع مستمر، ولذا نجده يتفادى الرحب ما أمكن ويفضل أن يكسب الآخرين بدونها بدلاً من أن يحاربهم لينتصر عليهم.
فعندما خرج، رحمه الله، على رأس حملته الشهيرة المكونة من ستين رجلاً من أقاربه ومؤيديه لمشروعه الكبير لم يكن يهدف إلى استعادة ملك آبائه وأجداده في نجد فقط وإنما في كل البلاد التي كانت قبل ذلك تشكل جزءاً من أجزاء الدولتين السعوديتين الأولى والثانية.
ولنا في قصة استرداد الرياض المثيرة الكثير من الدروس والعبر الإدارية والتي لا تختلف في جوهرها عما تنادي به معظم النظريات الإدارية الحديثة في مجالي القيادة واتخاذ القرارات، ولعل من اهمها:
1, قوة الإيمان بالله ثم قوة العزيمة والصبر وتحمل المخاطر، وهذه كلها انبثقت من وحي الرسالة النبيلة التي حملها الملك عبدالعزيز رحمه الله.
2 , وضوح الهدف العام للمهمة استعادة الرياض والأهداف التنفيذية الأخرى المساندة، وإيمان المنفذين بسلامة الهدف ونبل الرسالة.
3, الاعتماد على فرق العمل، وإشاعة روح الفريق بين المنفذين.
4, تقسيم العمل وتحديد الاختصاصات والمسؤوليات لكل فريق عمل بشكل واضح ومحدد لا يقبل الجدل, فكل عضو داخل فريق أو مجموعة من الرجال الذين شاركوا في تحقيق النصر يعرف تماماً ماذا كان عليه أن يفعل أو لا يفعل.
5, اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب، ويظهر ذلك من خلال تعيينه رحمه الله لأخيه الأمير محمد بن عبدالرحمن آل سعود على رأس عدد من مرافقيه وتحديد مهامهم في عملية الاقتحام، وكذلك بالنسبة للمجموعات الأخرى من الرجال.
6, دراسة احتمالات النجاح والفشل والتخطيط للطوارئ contingency planning فقد وضع رحمه الله أكثر من خطة، لأكثر من احتمال لعملية القضاء على عامل بن الرشيد.
7, الإلمام التام بطبوغرافية أرض المعركة بشكل مفصل، ومدى توافر الموارد المحلية.
8, الاهتمام بالمعلومات والاعتماد على الحقائق، لاأنصاف الحقائق، خاصة الحقائق الاستطلاعية المرتبطة بالهدف العام والأهداف الخاصة للمعركة.
9, الأخذ بمبدأ المباغتة والمبادرة الذي يستهدف إضعاف قدرات العدو قبل إعطائه الفرصة للاستعداد لإفشال خطة الهجوم، وهو مبدأ معروف في الخطط العسكرية.
10, تقدير قوة الخصم والاعتراف بها والاستعداد لها.
11, الدراسة والتمحيص وجمع أكبر قدر من المعلومات قبل اتخاذ القرار.
12 , عدم الإذعان للفشل أو الاستسلام له, فليلة الخامس من شهر شوال عام 1319ه لم تكن المحاولة الأولى للملك عبدالعزيز رحمه الله لاستعادة الرياض، بل سبقتها محاولات كان آخرها عام 1318ه، إلا أنها لم تفلح, وكان لشقيقته نورة رحمها الله قول مأثور اعتبر حافزاً في بعث همة الرجال الأشداء في عبدالعزيز إذ قالت لهلا تندب حظك كالنساء، إن خابت الأولى والثانية فسوف تظفر بالثالثة، ابحث عن أسباب فشلك، ولا تكثر من إقامتك عند امرأتك أو بيت أمك، فالرجال لم يخلقوا للراحة .
13, قيادته رحمه الله للمعارك بنفسه وهو في طليعة القوة المهاجمة, وعدم اكتفائه بالتخطيط للمعركة من وراء الكواليس، يقول رحمه الله في هذا الصدد: لو كانت الحروب العربية التي نسمع عنها في البلاد الأجنبية, ملوكها وقادتها يرتبون خطة الحرب وهم جلوس في منازلهم، والناس ينفذون أوامرهم، لهانت الحرب, ولكن حروبي على خلاف ذلك, لقد كنت في أكثر المعارك في طليعة القوة المهاجمة وبهذا كنت أرى استبسال من معي في القتال غير بسالتهم لو كنت وراءهم .
وهكذا كان الملك عبدالعزيز رحمه الله مخططاً بارعاً ومستشرفاً صائباً ومنفذاً ماهراً لا يكتفي بالتنظير أو القيادة عن بعد بل كان يقود التنفيذ، ليس فقط في ساحات الحرب.
بل وفي إدارته لشؤون البلاد وشؤون الأسرة, فقد خطط ورسم ونفذ وشارك في 48 معركة، وتولى قيادة 43 منها بنفسه, وخرج من معظمها بنصر وتأييد من الله عز وجل، ومما أفاض الله به عليه من سمات شخصية وقيادية نادرة سبق أن أتينا على بعض منها في مقال سابق.
* نظام للأولويات:
ومن أهم خصائص التخطيط لديه، رحمه الله، استخدامه نظام للأولويات في ضوء طبيعة المواقف ومجريات الأمور، وهو ما يعرف اليوم بالتخطيط المرحلي، فكان استرداد الرياض أولى أولوياته التي وضعها نصب عينيه، فلم يتخطاها، ولم يجعل شيئاً على حساب شيء, فبعد استتباب الأمر في الرياض، بدأ بالتفكير بالجنوب, ولا بد لنا هنا من وقفة لنتساءل لماذا الجنوب بعد الرياض؟ يعود السبب في ذلك لعلمه رحمه الله بأن الرياض وحدها لا تحميه، فلابد من التوسع وكسب الأنصار وتوفير الموارد للدولة الناشئة، فاتجه جنوباً لتحقيق هدفين: أولهما، ضم بلاد جديدة عرفت بولائها لآل سعود مما يضمن قيام جبهة قوية تدعم موقفه وتقويه، وثانيهما، عدم التحرش بآل رشيد الذين كانوا يسيطرون على معظم مناطق نجد, فاستولى على الخرج ثم الحريق والحوطة والأفلاج وبلغ وادي الدواسر على حدود الربع الخالي عام 1320ه.
كان هذا نوع من التخطيط الاستراتيجي الواعي، إذ كان في بداية عهده رحمه الله في حاجة ماسة الى قاعدة جغرافية وبشرية أوسع من الرجال والمال والسلاح والتأييد لرسالته، إذ كان على علم تام بقوى خصمه ابن رشيد ومساندة القوات العثمانية له.
فكان من الأنسب أن يحشد قواه ويزيد من عدد مؤيديه قبل خوض معارك كبيرة في الشمال حيث معاقل ابن الرشيد وأتباعه في منطقة القصيم وشمال شبه الجزيرة، فكانت هذه الأولوية الثانية.
أما الأولوية الثالثة فكان التوجه شمالاً للقضاء على معاقل ابن الرشيد في وقعة الشنانة الشهرية في 18 رجب عام 1322ه والتي تعد من المعارك الحاسمة بين القوات.
السعودية والقوات الرشيدية إذ تمكن الملك عبدالعزيز من بسط سلطته في بلاد نجد، وكانت تلك هي نهاية الوجود العسكري العثماني في نجد، كما تعد بداية النهاية للأمارة الرشيدية, إذ بعد هذه القوة امتدت الدولة السعودية الفتية لتشمل كل بلاد القصيم، وتوالت الانتصارات وأخذت المناطق تتلو بعضها مبايعة كما هو الحال في مدن الحجاز وبعضها استسلام بعد حرب كما هو الحال في الأحساء وعسير ومناطق أخرى.
فبعد التوسع وتوحيد مناطق المملكة في وحدة سياسة واجتماعية، جاءت الأولوية الرابعة، وهي تنظيم شؤون الدولة وتطوير المرافق وتنمية الموارد الاقتصادية.
القضاء على الفتن:
ومن دلائل قدرته على التخطيط، رحمه الله، صبره وحلمه على حركة الأخوان، وقد تريث الملك عبدالعزيز في التصدي لها لأن أشد ما يخشاه أن يفلت العصاة أو زعماؤهم من بين يديه، فكانت خطته أن يحصرهم ويضيق الخناق عليهم داخل حدود الدولة، ولا سبيل الى ذلك مالم يطمئن إلى أن بوادي الحكومات المجاورة وحواضرها ستغلق أمامهم، فلا يجد أحد منهم منفذاً للنجاة, وقد أرجأ التصدي لهم إلى ما بعد عقد مؤتمر الجمعية الذي حضره 347 من العلماء والزعماء ورؤساء الحواضر والبوادي حتى قدر عدد الجميع بثمان مائة, فكان هذا أكبر مجلس استشاري وأضخم برلمان عرفته شبه الجزيرة, وكان الهدف من هذا الاجتماع أخذ المشورة ومعرفة رأي كل شرائح المجتمع فيما أشاعه ابن دويش ومعاونوه من فتن وافتراءات, فجاء هذا المؤتمر بتجديد المبايعة للملك عبدالعزيز مؤكداً على ضرورة التصدير لابن دويش وأعوانه, وهكذا كانت معركة السبلة التي وقعت في روضة السبلة بالقرب من مدينة الزلفي في 19/10/1347ه1929م , وبعد استتباب الأمن والقضاء على فتنةالإخوان توجه رحمه الله نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
التنمية الاقتصادية:
قبل توحيد المملكة لم يكن في شبه الجزيرة اقتصاد بالمفهوم العلمي الحديث.
فمستوى دخل الفرد كان منخفضاً للغاية، والسكان عبارة عن مجموعات منعزلة ومتنافرة هنا وهناك يعمل معظمهم في التجارة وقليل من الزراعة والرعي وبعض الحرف اليدوية البسيطة وخدمة الحجيج، وصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ في بعض مدن الخليج العربي, أما بعد استتباب الأمن واكتمال عناصر الوحدة الوطنية توجه الملك عبدالعزيز رحمه الله بأنظاره نحو بناء مؤسسات الدولة لإدارة الاقتصاد, فربط الاقتصاد بالشريعة الإسلامية, كما جاء في كلمته الافتتاحية لمجلس الشورى في السابع من ربيع الأول عام 1349ه: إنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونظمنا هو الشرع الاسلامي, وأنتم في تلك الدائرة أحرار من سن كل نظام، وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط ألا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية, لأن العمل الذي يخالف الشرع لن يكون مفيداً لأحد, والضرر كل الضرر هو السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبذل جهوداً حثيثة في نقل الاقتصاد من اقتصاد القبيلة إلى اقتصاد الدولة فكان من أبرز هذه الجهود:
1, وضع حجر الأساس للعديد من عناصر البنية الأساسية مثل إنشاء الطرق والموانئ وتأمين وسائط الاتصال كالبرق والبريد والهاتف، فكان من أبرز اعماله، رحمه الله، في هذا المجال إنشاء الخط الحديدي بين الرياض والدمام الذي بدئ العمل فيه عام 1951م، فساعد ذلك على نمو مدينة الرياض واتساعها وتضاعف عدد سكانها وتنوعت احتياجاتهم فنشط التجارة وبعض الصناعات الخفيفة وازدادت حركة العمران والبناء.
2, تشجيع التجارة البينية بين مناطق المملكة المختلفة وذلك حسب الميزة النسبية لكل منطقة، وهذا بدوره ساهم في تقوية اللحمة والتكامل الاقتصادي والترابط الاجتماعي بين المناطق بعد أن كانت أشبه بجزر منعزلة عن بعضها البعض.
3, إنشاء بعض المؤسسات الهامة لإدارة الاقتصاد مثل مجلس الشورى سنة 1345ه و أعيد تشكيله سنة 1346ه والذي أنيطت به في بادئ الأمر إصدار التنظيمات لإدارة الاقتصاد، والنظر في ميزانيات الدوائر الحكومية، ومنح التراخيص للمشروعات الاقتصادية، ومنح الامتيازات وإجراء العقود وغيرها, ولتنظيم الشؤون المالية والاشراف عليها ومراقبتها، أنشئت وزارة المالية عام 1351ه فكانت بذلك ثالث وزارة يتم إنشاؤها في عهد الملك عبدالعزيز بعد الخارجيةعام 1349ه والداخلية عام 1351ه ، ثم المواصلات عام 1372ه , وقد أنشئ معظم هذه الوزارات بعد تغيير اسم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى اسم المملكة العربية السعودية اعتباراً من يوم الخميس 21/5/1351ه22/9/1932م .
كما صدر في العام نفسةعام 1351ه نظام المالية محتوياً على 103 مواد منظماً لعمليات الصرف والتحويل وغيرها من التعليمات المالية, وتجدر الإشارة إلى أن أول ميزانية صدرت للدولة عام 1351ه كانت بالقروش الأميرية حيث بلغت واردات ذلك العام 109,442,544 قرشاً أميرياً، وكان القرش الأميري يساوي 0,293 من الدولار الأمريكي حسب سعر صرف الدولار آنذاك, أما مصادر الإيرادات فكان معظمها يعتمد على الزكاوات، ورسوم الجمارك، والضرائب، ورسوم الخدمات الحكومية وعوائد استثمارات المعادن وواردات التقاعد وغيرها.
4, ولزيادة إيرادات الدولة مقابل احتياجاتها ونفقاتها المتنامية أجرى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، مفاوضات مع بعض الحكومات والشركات الأجنبية للاستثمار في مجالات التنقيب وإنتاج النفط ومعادن أخرى كان الغرض منها ليس فقط تنويع مصادر الدخل بل غرس بذور التنمية الشاملة لكافة قطاعات المجتمع السعودي, فقام رحمه الله بإبرام اتفاقية التنقيب عن النفط مع شركة أرامكو في 29 مايو عام 1933م، كما قام بزيارته الأولى لمرافق الشركة في 28 إبريل 1939م، أما زيارته الثانية لتفقد عمليات الشركة فكانت في 21 يناير 1947م, واقترن بفترة المفاوضات هذه اتباع سياسة نقدية واضحة أضافت عنصراً قوياً من عناصر التوحد لسياسة الدولة الفتية وهو سحب جميع العملات المحلية المتداولة وسك عملة محلية تحمل اسم سلطان نجد، وفي عام 1346ه تم إصدار الريال الفضي السعودي الذي كان مماثلاً للريال المجيدي، وفي عام 1371ه1952م تم إنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي لتكون بمثابة البنك المركزي للدولة وجهازاً حديثاً لتنفيذ سياسة المملكة النقدية.
وبالرغم من غياب التخطيط القوميالخطط الخمسية كمفهوم وممارسة كما هو معروف اليوم، إلا انه استطاع، رحمه الله، بقوة بصيرته ونفاذ رؤيته أن يضع اللبنات الأولى لبناء اقتصاد عصري متكامل لمجتمع موحد يسوده الأمن والرخاء وينعم برفاهية نادرة اصطلح على تسميتهابعهد الطفرة فيما بعد.
التنمية الاجتماعية:
أما في مجال التنمية الاجتماعية فكان تأسيس الهجرة كأداة من أدوات التخطيط الاجتماعي, لقد كان الهم الأول للملك عبدالعزيز رحمه الله هو إخراج البادية مما كانت عليه من جهل وعداء وتحويلها إلى مجتمع متحضر يأخذ بأساليب الحضارة الحديثة ضمن إطار تعاليم الشريعة السمحاء, فقد روي عنه قوله، رحمه الله، إنني أريد تطوير نزعة البدو الفطرية إلى الحرب، حتى يشعروا أنهم أعضاء في جماعة واحدة، إنه عمل شاق، لا أنكر ذلك، ولكن الجانب الكبير منه سيتحقق عندما تبدأ وحدات الجيش تشعر بأن الهجر التي نشأت هي بمثابة وطن صغير لها وسط الوطن الكبير القاحل، وهكذا بدأ في برنامج لإنشاءالهجر ويعني الانتقال من البداوة إلى الحضارة حيث وجد الماء، وسميت كذلك لأنه كان على القبيلة أن تهجر بيوت الشعر وأن تبني بجوار الماء وتقتني الماشية وتزرع، وتحصد، وتستقر، ولها من بيت المال المساعدة على البناء وعلى الزراعة.
فكانت أول هجرة ترى النور هي هجرة الارطاوية عام 1330ه 1912م وتوالى بناء الهجر حتى بلغ عددها عام 1369ه1950م مائة واثنتين وخمسين 152 هجرة.
وقد أورد الزركلي قائمة بأسماء هذه الهجر والقبائل التي استقرت بكل منها.
وبجانب إنشاء الهجر عني، رحمه الله، بمحاربة الجهل بنشر الوعاظ والمرشدين المطاوعة وطبع الكتب الدينية وفتح المدارس، فلقد كان المطوع هو خطيب القرية، يصلي بأهلها، ويعلم أبناءها، ويفتي كبارها، ويعقد الأنكحة، ويقسم المواريث، ويتوسط في حل المشكلات.
ولتسهيل الاتصال السريع بين أجزاء المملكة المترامية الأطراف تم ربط هذه الأجزاء بشبكة من المحيطات اللاسلكية، كما سمح لأفراد الشعب باقتناء الراديو والسيارات ومنح امتياز التعدين واستخراج النفط للشركات الأجنبية وبدء المشاريع الاقتصادية الكبرى كبناء الموانئ والمطارات فازدادت حركة العمران والبناء والتجارة في كل جزء من أجزاء المملكة.
تنمية القوى البشرية:
يعتبر التعليم ملمحاً آخر من ملامح التخطيط في عهد الملك المؤسس، رحمه الله، فلم يكن اهتمامه بهذا الجانب أقل من اهتمامه بالجوانب الأخرى من مالية واقتصادية واجتماعية وتنظيمية, إلا أنه رحمه الله كان يسير على نهج من الأولويات كما سبق ان ذكرنا, فبناء مؤسسات التعليم تحتاج إلى موارد مالية ضخمة لم تكن متوفرة في بداية مرحلة التأسيس بالإضافة إلى رجال التعليم من ذوي الاختصاص من المواطنين, فقد ظل التعليم يسير على النمط التقليدي المتوارث طوال تلك الفترة، ولم يظهر التعليم الحديث المنظم إلا في أواخر العشرينات الميلادية بعد أن تمكن رحمه الله من إتمام عملية توحيد الأقاليم في إطار الدولة الموحدة.
وازداد التعليم تطوراً وحداثة بعد ازدياد مخصصاته المالية ضمن ميزانية الدولة بعد اكتشاف النفط كسلعة تجارية مهمة جلبت للدولة السعودية موارد طائلة، فأخذ التعليم يتطور في عدد مدارسه ومادته التعليمية وأسلوبه ومنهجه مبتعداً تدريجياً عن أساليب التعليم القديمة.
ويعتبر إنشاء مديرية للمعارف العامة عام 1344ه1926م فاصلاً مهماً من فواصل تطوير التعليم في مرحلة التأسيس، حيث ربطت هذه المديرية بالنائب العام وأسند تصريف أعمالها إلى مدير عام المعارف، ولقلة المدرسين من المواطنين استقدمت الحكومة المعلمين من مصر وبلاد عربية أخرى، وأسست معهداً للمعلمين لتأهيل المدرسين لمراحل الدراسة الأولى، كما أنشأت مدرسة لتحضير البعثات في مكة المكرمة عام 1354ه1935م لإعداد الطالب للالتحاق بالجامعات والمعاهد العليا تمهيداً لبدء برنامج مكثف للبعثات التعليمية في الخارج.
وتجسيداً لعناية الملك عبدالعزيز رحمه الله بالعلوم الشرعية والعربية أمر بافتتاح دار التوحيد في الطائف لتتولى تدريس هذه العلوم واختير لها نخبة من علماء الأزهر إضافة إلى العلماء من السعوديين, وفي عام 1369ه 1949م افتتحت كلية الشريعة، وتعد أولى المراحل الجامعية في المملكة ونواة لجامعة أم القرى في مكة المكرمة .
وقد توجت هذه الجهود بإنشاء وزارة للمعارف في 18/4/1373ه1953م وذلك بتحويل مديرية المعارف العامة إلى وزارة وعين خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز أول وزير لها, ويلاحظ بأن إنشاء هذه الوزارة جاء لاحقاً لوفاة الملك عبدالعزيز بفترة قصيرة 2/3/1373ه مما يؤكد بأن بدء الإعداد لإنشائها قد تم في عهده رحمه الله, ويعد إنشاء هذه الوزارة بمثابة الانطلاقة الفعلية للتعليم الحديث.
نخلص من كل ما تقدم بأن قدراته، رحمه الله، التخطيطية تمحورت بشكل أوضح وأبرز في المجالات العسكرية والسياسية، وفي وضعه نظاما للأولويات، وفي خطته للقضاء على الفتن، وفي إرسائه لقواعد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، ممهدة بذلك الطريق نحو تنمية شاملة لمجتمع المملكة العربية السعودية, ولا يستبعد هذا الحصر مجالات أخرى عديدة مثل الصحة والعلاقات الخارجية وغيرها لحقتها يد التخطيط في عهد الملك المؤسس.
* عضو مجلس الشورى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.