ليس تزييفاً للمعرفة، أو تعدياً على التاريخ، بل ليست مشاعر عابرة لكاتب يلتقط أصدافه على ضفاف (الجزيرة) عندما أصفها بالمؤسسة الإعلامية المرموقة والمدرسة الصحافية العريقة.. ...فهذه حقائق الواقع المعاش بشهادات تاريخها المكتوب بين دفتي كتاب الإعلام السعودي الكبير، الذي يؤكد دورها الريادي وسمو مكانتها في هذا المجال الحيوي، ويبرهن على حقيقة وجود شخصيات صحافية تخرجت في قبة (الجزيرة)، وهي الآن ترأس صحفاً محلية وتُدير مؤسسات إعلامية على امتداد الوطن العربي، إضافةً إلى أن ذلك التاريخ يشهد بنماذج صحافية مشرّفة لصحافيات وكاتبات ما زلن يشاركن في مسيرة (الجزيرة)، وأخريات طوت أقدار الله أسماءهن عن صفحات (الجزيرة) اليومية بسبب مشاغل الحياة والالتزامات العائلية القاهرة، المرتبطة بطبيعة دور المرأة الاجتماعي المتعدد، ولكن بقي ذكرهن الجميل وإسهاماتهن المميزة وحروفهن المعبرة، التي كانت تصافح القراء كل صباح تشرق شمسه على (الجزيرة) المفعمة بالحياة. إن قافلة صحافيات وكاتبات (الجزيرة) تزخر بالأسماء السامقة والأقلام اللامعة، ولأن الحديث عن هذه الأسماء يحتاج لأكثر من مقال، فإني سأكتفي بالإشارة إلى الأستاذة القديرة والكاتبة الأديبة (حصة بنت محمد التويجري) باعتبارها أنموذجاً للغائبات عن عالم الحرف ودنيا الكلمة لسنوات طويلة، ولكنها من الحاضرات في وجدان (الجزيرة) وفي أقبية ذاكرة قرائها حتى هذه اللحظة.. فمن ينسى (العزف بالكلمات) الذي كانت تجيده حصة التويجري بمهارة عالية على أوتار (الجزيرة) فينتشر نغمه في سكون المجتمع إلى أن تتحرك المياه الراكدة، من خلال صفحة أسبوعية كاملة ذات طابع اجتماعي ممزوجة بلغة أدبية وثقافة راقية، ومن لا يذكر تلك الأوراق العابرة للقارات التي كانت تأتي من خلف المحيطات بعنوان: (أوراق مغتربة)، محررة بقلم طالبة سعودية مبتعثة للولايات المتحدة الأميركية، فكانت (الجزيرة) نافذتها التي تطل من خلالها على وطنها، الذي تشتاق إليه وتمده بهموم المغتربين، إلى أن أنهت مشوارها العلمي واستقبلها عام 1979م بحصولها على شهادة الماجستير في الخدمة الاجتماعية من جامعة سانت لويس.. لتبدأ رحلة العمل الحكومي متسلحةً بشهادة عالمية في عدة مناصب تستحقها، تحت مظلة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية - آنذاك - إلى أن أصبحت خبيرة التنمية الاجتماعية. لكن ضريبة النجاح الوظيفي الذي حققته الأستاذة حصة التويجري كان غياب حرفها اللامع عن سطور (الجزيرة) المضيئة، وانقطاع أفكارها الخلاّقة التي تعزفها بكلمات منفردة كل أسبوع، وهي بذلك قد أكدت حالة إعلامية تتكرر مع كثير من الكاتبات والصحافيات السعوديات، حالة الغياب الواقعي والحضور الوجداني، غياب عن واقع الصحافة وحضور في وجدان الصحيفة، غير أن هذا الغياب القسري من الممكن أن يتحول إلى حضور حقيقي بعودة فعلية إلى نظم الحروف، خصوصاً أن دواعي الغياب انتفت ومبررات العودة وجبت، فلم تعد حصة التويجري (مغتربة) تحمل همّ الوطن وحلم الإنسان بين أوراق ابتعاثها فلا تريد ما يشغلها عن بلوغ مستقبلها، خصوصاً أن (الجزيرة) تحب أن تكون جزءاً كبيراً من هذا المستقبل كما كانت جزءاً مهماً من ماضيها، أيضاً لم تعد (موظفة) تكابد بشكل يومي لتحقيق الموازنة المستمرة بين التزامها الوظيفي وواجبها الأسري وتطلعاتها الخاصة.. لذلك قد نجد كاتبة تنقطع أو تتعثر أو تتوقف بما يشبه استراحة المحارب، ولكن لا يمكن أن تعتزل إلا إذا اعتزلت الحياة، فما بالك بأستاذة أديبة لديها ملكة الكتابة ورصيد من العطاء الصحافي يؤكد أن حرفها لم يمت وفكرها لم ينضب، خصوصاً وقد أمست خبيرة قديرة في التنمية الاجتماعية، ما يعني أن خبرتها العملية وعلمها الأكاديمي وتجربتها الحياتية وخلفيتها الثقافية تشكل منابع رافدة لكتاباتها المتنوعة، فتعزف من جديد كلماتها الرشيقة على ضفاف (الجزيرة)، التي ُتسهم -بإذن الله- في صياغة واعية لحياة أفضل لأبناء الوطن وأجياله.. يبقى أن نعود بذاكرة الأستاذة حصة بنت محمد التويجري إلى ما قالته في حوار أجرته معها صحيفة (الجزيرة) في الخامس من شهر ديسمبر لعام 1998م، وتحديداً في إجابتها على السؤال: بعد غياب طويل عن الصحافة لماذا لا تعودين لممارسة الكتابة؟ بقولها: أعطني رئيس تحرير مثل خالد المالك ليكون هناك قرار عودة. تمنياتي أن تتخذ القرار وأن لا تتأخر العودة.