البارحة حدقت طويلا في مرآتي، بدوت شاحبا ومتعبا على غير عادتي، رف في مقلتي بعض من الدمع، والدمع علامة تسلب اللب وتهزم القلب وتكسر الضلع، البارحة دون الآخرين اتشحت بالحزن ولم أتشح بجمال الأقحوان والنرجس وشدو البلابل وماء الجداول، البارحة ولج الضيم والحزن في أضلعي، أحسست بالجمر والريح والبرد معا، البارحة فقط تذكرت جيدا سنواتنا الخوالي وكيف انشغل بعضنا بكتابة المجاملات والتصفيق الحاد والتصفير المزعج والمدح الأرعن الكبير، وكيف بقي بعضنا يطبطب على ظهور بعضه الآخر كذبا بمجاملات فارغة مقززة، وكيف أصبح بعضنا كتّاب أغراض ومعاريض تؤطرهم البلاغات القديمة والمحسنات غير البديعة، مستخدمين صورا ورموزا واستعارات غير واضحة وبها غموض، كان بعضنا يركز فيها على الإيقاع والوزن والموسيقى وترف المفردة دون المضمون والمحسوس والمرئي والواقعي، كتب بعضنا في المعميات والتجريدات والمفارقات، وسطر الأوهام، وغاص في المجاهيل والأوهام والطلاسم والأبراج والأفلاك، كتب لاهثا عن الصقور والوعول والغزلان والنساء الحسناوات الفاتنات دون غرام ودون انسجام ودون عاطفة، كتب عن البرق والمطر والغيم والشمس والنحل والورد والضباب والصباحات الجميلة والمساءات الحالمة والقطار وشجيرات الأثل والحمام والقطاء والحدى وتراتيل الرحيل وغناء الألم وغبار الصحراء والسفن العابرة والعشق والضنى.. حتى أصبحت هذه الكلمات من الأشياء المقدسة لهم، لا يمكن أن يفلت من سلطتها وجبروتها، كتب بها وعنها وكأنه يعيشها كما تعيش الكائنات الأخرى في غابات الأمزون أو التبت أو في الشواطئ الأوروبية ومتاحفها وحدائقها ومنائر بحارها.. دوّن بعضنا كلاما جميلا لكنه بلا معنى ولا هدف ولا حتى مضمون، بدعوى ارتياد المجاهيل، واكتشاف الفرائد، حتى أصبح بعضنا يملك ذاتًا نرجسية يتلبس البطولة ويطارد الغرباء وينقذ البؤساء، كل واحد يدعي الفروسية، المواضيع عند بعضنا خارج ذاته المزنجرة بصدأ النبذ والطرد والحقد والكراهية، بقي بعضنا يدعي الملائكية بكل رموزها وحدوسها وأسرارها ورموزها، لا ينطق إلا بالأسرار الكبرى، ولا يتنبأ إلا بالكليات.. صنع بعضنا كتابات عالية الأسوار ووضعها في قنينة راقية لتطفو في بحر المجهول حتى إنه لا يعرف لمن تصل. البعض من كتّابنا مزيفون ومنافقون ونخبويون وكذابون، ادعاءاتهم الكتابية وأقوالهم الركيكة انقلبت عليهم، وانكشف كل زائف؛ لأنها انبنت على الأنوار الوهمية والغيبية والأطروحات الصدئة، كأنهم يعيشون في عزلة عن واقع يعيشونه بموضوعية. لقد كذب علينا بعضهم برؤى غير حقيقية بها عتمة وغبش غير رومانسية وغير منسجمة مع الواقع المعاش، وأوهمونا بطبائعهم الأيديولوجية والميتافيزيقية وحدسهم لصناعة الكتابة الكيانية والإشراقية، حتى وضعونا في عالم منعزل عن المحيط والإقليم والمجتمع والحياة، بملاحم بغبغائية عبثية تتبنى الرؤى الخيالية بلا دليل قوي ولا حجة ولا برهان، حيث يطلق بعضهم كتاباته وفق معطيات شخصية واشتهاء ذاتي واستجداء وأنانية مفرطة، بعض كتابنا دفن رأسه في الرمال خوفا من النظر في الكارثة التي مرت بنا ولم ينبس ببنت شفة، بل أصابه الخرس والصم والعماء، اندفع فقط في طريق خرائطه ورسائله الكهنوتية ورومانسيته الحالمة ونرجسيته الذاتية وبرجه العاجي.. التي رحلت به إلى عالم آخر غير، ولم يغتسل مثلنا بمطر الكارثة الثقيل أو يصيبه شيء منه، ماتت فيه حتى الحياة العادية وجاءته عتمة النفس ودخان حرائق الروح، وتسربل بأسمال اللامبالاة بسبب لهاثه الذي زخه بحضن صباحه الذي ابيض وهو كظيم، حتى إنه اضطر إلى شرب قهوته في ظلامه المخيف. [email protected]