صراخ الباعة يملأ المكان، كل ينادي بما لديه من بضاعة. رائحة الخبز والخضار والتوابل والحلويات التقليدية تضيع في أجواء السوق الشعبي. هنا سوق «بلكور» أحد أبرز الأحياء العتيقة في العاصمة الجزائرية. فمع حلول شهر رمضان تضيق هذه السوق بباعتها، فتمتد لتغطي مساحات أخرى من الأرصفة في الطرق التي تتحول إلى أمكنة يعرض فيها الشباب مختلف السلع التي تلبي حاجات الجزائريين في الشهر الفضيل. التجارة للجميع ككثير من الشباب الذين يعانون من البطالة، يجد ياسين وهو في مقتبل العمر، ضالته في بيع الخبز المصنوع في المنزل. تجارة لا تنضب خصوصاً في شهر رمضان المعروف في المجتمع الجزائري بأنه الأكثر استهلاكاً لمادة الخبز. وتجارة بيع الخبز المنزلي لها حصة الأسد بين المهن التي تظهر في رمضان، نظراً إلى الإقبال الكبير للصائمين عليه. يعتبر ياسين أن الحاجة أم الاختراع. وهو يُغيّر تجارته وفق المواسم والطلب أيضاً. ففي شهر رمضان يكون الطلب على الخبز كبيراً، وخصوصاً الذي تصنعه ربات البيوت، فيتضاعف سعره. وهو يستغل ذلك لربح بعض المال. ويقول: «أحاول أن أربح بعض المال الحلال». ويضيف: «يومياً تعجن لي الوالدة بين 20 إلى 30 خبزة، أبيعها هنا في السوق، عائداتها لا تجعلني غنياً، لكنها على الأقل لا تدفعني الى أن أمد يدي». يصرخ ياسين بأعلى صوته: «الخبز بخمسين ديناراً (أقل من دولار واحد) ساخن وطري ولذيذ»... كلماته تستقطب المارة من الزبائن في السوق الشعبي. صناعة الخبز المنزلي تبدأ من الصباح الباكر. يقول ياسين: «الوالدة تنهض مع أذان الفجر لتجهيز العجينة وتبدأ تحضير الخبز لتطهوه على طاجين من الفخار». يحصل ياسين على مال وفير في الشهر الفضيل، فتجارة الخبز المنزلي تعرف رواجاً كبيراً في رمضان، نظراً إلى الإقبال الكبير على هذه المادة الأساسية التي لا يستغني عنها الجزائريون في مائدة الإفطار في عز شهر الصيام. ياسين مثل الآلاف من الشباب الذين يعانون من شبح البطالة، فحصوله على شهادة جامعية لم يشفع له للحصول على عمل في اختصاصه. ورحلة البحث عن عمل مستقر، هي وجهة الآلاف من الشباب الجزائري وكثيرين اضطرتهم الظروف لممارسة التجارة الموسمية والحصول على قوت يومهم، يغتنمون فرصة حلول شهر رمضان. باعة الحشائش مثل المعدنوس والكرافس والنعناع ومختلف أنواع التوابل التي تضفي نكهة خاصة على الطعام، وخصوصا في إعداد مختلف أنواع الحساء، ينتشرون أيضاً في زوايا الأسواق الشعبية. تختلط أصواتهم بأصوات باعة الخضر والفواكه والسمك، وحتى الأواني التي تعتبر قبلة النساء في رمضان. حشائش لإفطار غني يضع هشام، الذي لم يتجاوز التاسعة من العمر، طاولة صغيرة مكدّسة بالحشائش التي يشتريها من الفلاحين في منطقة «درقانة» بالعاصمة ليعيد بيعها بثمن مضاعف. يجمعها في شكل ربطات صغيرة ليبيع الواحدة ب 20 ديناراً جزائرياً. ليس بعيداً من باعة الطاولات، يقف «السعيد» الذي اتخذ محلاً صغيراً في السوق، حيث ينتهز كل سنة الفرصة في الشهر الفضيل لصناعة الحلويات بمختلف أنواعها بمساعدة زوجته وأبنائه، فيقدم للمشترين قلب اللوز والزلابية وأصبع العروس وغيرها. وتدرّ صناعة الحلويات على «السعيد» كثيراً من المال خلال شهر رمضان، نظراً إلى مكانة الحلويات على موائد القهوة والشاي في السهرات الرمضانية. لا يغادر العم أحمد السوق الشعبي في بلكور من دون أن يأخذ في يده ما تحتاجه زوجته وأم أطفاله الخمسة من سلع يضعها في قفة تقليدية مصنوعة من الحلفاء، لكنه يزيد عليها ما يشتهي من خبز منزلي وحلويات تقليدية يحبها ويرغب فيها أطفاله الذين قال انه يكافئهم على صيامهم بهذه الحلوى التي تسمى «الزلابية». وهو يفضل المجيء إلى هذه السوق لوجود «الرحمة فيه»، ويقصد انخفاض الأسعار مقارنة بالأسواق الأخرى. تضفي الأسواق الشعبية في الجزائر جواً خاصاً في شهر رمضان، وتعطي نكهة مميزة على يومياته، وفي غالبية الأحيان تصبح الوجهة الأولى للأسر وتستقطب الصائمين، فمنهم من يجد ضالته في محاولة استكشاف يومي لما لذّ وطاب من البضاعة المعروضة هنا وهناك، ومنهم من يجد ضالته في انخفاض أسعار البضائع التي يعرضها الباعة الجوالون وأصحاب الطاولات الذين يعرضون بضاعتهم على الأرصفة في هذه الأسواق، بعدما بات غلاء السلع هاجساً يقلق الجزائريين ويدفعهم الى محاولة الحد من المصاريف الإضافية في هذا الشهر. كالقدر المحتوم، فرضت التجارة الموسمية الموازية و «غير الشرعية» نفسها في الجزائر، وهي تقلق الحكومة التي فشلت في منعها، وإجبار الباعة على العمل في الأسواق الرسمية المنظمة. وقد استسلمت أخيراً للأمر الواقع، إذ قرر وزير التجارة عمارة بن يونس إدراج هذا النشاط الموازي تدريجاً ضمن التجارة الشرعية. وأحصت الوزارة نحو 2000 سوق موازية في مختلف الولايات، وعدت الحكومة باستيعابها بشكل تدريجي في المنظومة التجارية.