القرار الإسرائيلي تجميد خطة وزير الدفاع، موشيه يعالون، للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين في حافلات الركاب في الضفة الغربية، يجب ألا يخدع أحداً. ليس فقط لأن صاحبه وزير الدفاع موشيه يعالون، أكد أنه سيعود إليه في وقت ما، بل لأن دوافعه السياسية ستكون حالة مستدامة مع هذه الحكومة. فهو يهدف إلى إرضاء المستوطنين اليهود، الذين كانوا يتذمرون من سياسة يعالون في الدورة السابقة. واليوم يريدون إرضاء المستوطنين في كل شيء، خصوصاً في موضوع القدس وتهويدها. وليس مصادفة أن مشاريع الاستيطان في هذه المدينة في رأس سلم الاهتمام ومنذ الانتخابات وحتى اليوم أعلنوا عن مشروعين استيطانيين فيها. وهم يستفزون أهلها الفلسطينيين ويهددون مكانتهم، وفي الوقت نفسه يحذرون من «تدهور الأوضاع الأمنية في المدينة المقدسة». يقيمون الاحتفالات بتوحيد المدينة (في ذكرى احتلالها) متجاهلين موقف أهلها الفلسطينيين، ثم يتذمرون من رد فعلهم. يشجعون المستوطنين على اقتحام الأقصى يومياً وإقامة الصلوات في باحاته، ثم يشكون من اعتداءات فلسطينية على اليهود. وجهات إعلامية إسرائيلية تعتبر تصرفات الفلسطينيين «أبرتهايد ضد اليهود». وبعد أن صنعوا كل هذا التوتر، يعلن الإسرائيليون أن القدس باتت «الجبهة الأمنية الأكثر فاعلية». ويحذرون من نشاط التنظيمات الفلسطينية المتصاعد. وينشرون التقارير عن «إحباط محاولات لعناصر حماس بتنفيذ عمليات كبيرة»، و «الكشف عن خلايا مسلحة من القدس والضفة من تنظيمات مختلفة» وعن تهديد عمليات فردية لأناس غاضبين. وتعترف إسرائيل بأن العمليات الأخيرة ضدها في القدس والضفة تتم بمبادرات فردية غير مخططة. وتقول أن التنظيمات الفلسطينية لم تتمكن من تجنيد المقاتلين لتنفيذ العمليات، بينما الأفراد الغاضبون نفذوا العمليات بمبادرتهم الذاتية، خصوصاً عمليات الطعن والدهس المتكررة، والتي كان آخرها دهس ثلاثة من أفراد الشرطة في حي الطور في القدسالشرقية، من جانب فلسطيني، وتعرض إسرائيلي للطعن في المنطقة الصناعية «ميشور أدوميم» وعملية دهس أخرى عند محطة ركاب في غوش عتصيون. التحقيقات مع الفلسطينيين الذين نفذوا بعض هذه العمليات هي التي دفعت إسرائيل، بالأساس، إلى الإعلان عن القدس «الجبهة الأمنية الأكثر فاعلية». ووفق ادعاءاتها، فإن هؤلاء أعلنوا أن معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية، وانغلاق الأفق السياسي في وجوههم هي التي دفعتهم إلى تنفيذ مثل هذه العمليات، وهذا الجانب، بنظر الإسرائيليين، هو الخطر الأكبر لأن السيطرة عليه هي أصعب من السيطرة على خلايا وتنظيمات – «فالعمليات تنفذ من جانب أفراد يقررون في لحظة أنهم يريدون الانتقام لمعاناة رزوحهم تحت الاحتلال الإسرائيلي وسياسة الحكومة التي تضيق عليهم في حياتهم اليومية وتمنح المستوطنين وغلاة اليمين كل الدعم. وإزاء هذا الوضع تتوقع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عمليات نوعية من شأنها أن تفجر الوضع كما حصل عند اختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم وتدهور الأوضاع حينذاك إلى حرب «الجرف الصامد» على غزة. ولا تسقط إسرائيل من سيناريواتها في هذا الجانب، ما أسمته «الصحوة الدينية المتطرفة»، وتزايد عناصر تنظيم «داعش». يعالون، وبدعم من رئيس حكومته عندما أعد خطة الفصل، لم يتوقع أن تثور ثائرة دول العالم عليها. والخطة، كما هو معروف، تقضي بمنع الفلسطينيين من ركوب حافلات تضم ركاباً من المستوطنين اليهود. ووفق هذه الخطة، فإن الفلسطينيين الذين يدخلون للعمل في إسرائيل عبر معابر ريحان (برطعة)، هالا (غوش عتصيون)، إلياهو (منطقة نابلس) وأيال (غرب قلقيلية)، تمكنهم العودة إلى بيوتهم فقط عبر المعابر التي دخلوا منها، ولا يسمح لهم بالسفر في الحافلات التي تنقل المستوطنين إلى الضفة. هذه الخطة كان سيتم اختبارها لمدة ثلاثة أشهر يتم بعد ذلك استخلاص العبر. في الوضع الحالي، فإن العمال الفلسطينيين الذين يسمح لهم بالدخول للعمل في إسرائيل، يعودون إلى الضفة عبر أي معبر يختارونه، ويفضل الكثيرون منهم العودة من وسط البلاد على متن الحافلات المسافرة إلى منطقة مستوطنة أريئيل، على الشارع الرقم «5». وفي الخطة الجديدة سيضطرون للعودة فقط عبر المعبر الذي دخلوا منه، ومن هناك مواصلة السفر إلى بلداتهم بواسطة سيارات النقل الفلسطينية، ما يعني أن الفلسطيني الذي يقيم في بلدة على امتداد الشارع 5، سيضطر الآن إلى السفر إلى حاجز أيال، شمال الشارع 5 والدخول عبره، الأمر الذي سيكبده ساعتي سفر إضافيتين. وخطة يعالون للفصل هي في الأصل خطة المستوطنين في الضفة، التي طرحها منذ سنوات، أورن حزان، الناشط الاستيطاني في أريئيل آنذاك، وعضو الكنيست عن ليكود حالياً، وتشمل منع الفلسطينيين من السفر على متن الحافلات المسافرة إلى المستوطنات. وفي حينه رفض قائد المنطقة الوسطى السابق، الجنرال نيتسان ألون، ادعاء المستوطنين بأن السفر المشترك يشكل خطراً أمنياً، وقال أن العمال الفلسطينيين الذين يدخلون إلى إسرائيل عبر الحواجز لا يشكلون خطراً (لأنه يجرى فحصهم أمنياً قبل السماح لهم بالدخول)، ولو أرادوا تنفيذ عمليات لكان يمكنهم القيام بذلك داخل إسرائيل وليس بالضرورة داخل الحافلات. وكان يعالون وافق في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، على ادعاءات المستوطنين، خلافاً لقائد المنطقة الوسطى السابق، وأمر بعودة كل العمال الذين يدخلون عبر حاجز أيال عبر المعبر ذاته. وفي رده على الانتقادات التي وجهت إليه حينذاك، قال يعالون: «لا حاجة لأن تكون رجل أمن كي تفهم أنه عندما يوجد 20 عربياً داخل حافلة يقودها يهودي، ويوجد بينهم راكبان أو ثلاثة وجندي أو جندية مع سلاح، فإن ذلك يعتبر ضماناً لتنفيذ عملية». الخبير السياسي الإسرائيلي في الشؤون الأميركية، حيمي شليف، حذر من هذه السياسة، عبر مقارنته بالزنوج السود ويقول: «المقارنة بين إسرائيل والبيض العنصريين، وبين العمال الفلسطينيين والزنوج المضطهدين لم يكن مستحيلاً، حتى لو كان هناك ألف فارق وفارق. حتى المدافعون في شكل متواصل عن إسرائيل – الجمهوريين والمحافظين والإنجيليين – حافظوا هذه المرة على حق الصمت ولم يدافعوا عن إسرائيل. وبالذات لأن أوباما تحدث قبل إعلان نبأ الفصل في الحافلات وإلغائه في إسرائيل، فقد عبر في شكل مناسب عن العلاقة العميقة في الوعي بين مصير اليهود في إسرائيل والسود في الولاياتالمتحدة. وقال أوباما: «أنا اساوي في شكل مطلق بين حق اليهود بوطن وحقهم بالشعور بالأمن والحرية من التمييز والملاحقة، وبين حق الأفارقة الأميركيين بالتصويت والتمتع بالحماية المتساوية أمام القانون». وأضاف خلال اللقاء (الذي نشر الخميس في مجلة «أطلنتيك») أنه «يجب على إسرائيل أن تجسد القيم التي قادت إلى انتهاء العبودية وقوانين جيم كراو»، وهذه هي القوانين التي شرعت حينذاك التفرقة العنصرية بين البيض والسود في حافلات الركاب الأميركية في المسيسبي وألباما، والتي أعيد التذكير بها لوصف باصات التمييز التي تم التخطيط لتفعيلها في الضفة الغربية»، يقول شليف، ويضيف: «هذا التشبيه هو أحد الأسلحة الأساسية لحركة المقاطعة ونزع الشرعية المضادة لإسرائيل: في عام 2011 أجبر النشطاء الفلسطينيون الذين أطلقوا على أنفسهم «ركاب الحرية» على النزول من الحافلات عند مدخل القدس التي حاولوا الدخول إليها من دون تصاريح. وفي الصيف الماضي، استخدمت أعمال الشغب العرقية في فيرغسون وغيرها من المدن كمحمية لإنتاج المقارنة المتساوية. إسرائيل تحاول درء المقارنة بين الوضع الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا أو أميركا الجنوبية وبين الضفة، لكنها توفر الذخيرة الرئيسية لأعدائها. هكذا حدث في معاملتها طالبي اللجوء من أفريقيا واحتجاجات الإثيوبيين الإسرائيليين، وهكذا في قانون القومية والتصريحات ضد فلسطينيي 48 والفصل في الحافلات». «هذا يثير الغثيان»، هكذا عبر مسؤول رفيع في الجالية اليهودية الأميركية في تصريحات تناقلتها وسائل إعلام إسرائيلية، وقال خلالها: «لم أعرف ما إذا كان ذلك بسبب تدهور قيم المجتمع الإسرائيلي أو الخوف من الانغلاق السياسي الذي تظهره حكومته». ووافق على أن المؤتمر الذي شارك فيه، والذي تناول صورة إسرائيل ومكانتها الدولية وعلاقاتها مع الولاياتالمتحدة، بدا قديماً بعض الشيء بل ساذجاً، على رغم أنه انتهى قبل ساعات قليلة من بدء الفصل في الحافلات. التخوف الإسرائيلي في أعقاب هذه الخطة، ولو تم تجميدها، يكمن في سياسة حكومة اليمين الجديدة والدعم الذي يحظى به المستوطنون من وزير الدفاع. فيعالون يسعى اليوم إلى تعزيز علاقته بالمستوطنين وضمان دعمهم له، سواء عبر خطة الفصل هذه أو البناء الاستيطاني لتوسيع مستوطناتهم وهناك من لا يستبعد من السياسيين والأمنيين الإسرائيليين أن يعود يعالون، قريباً، ليعلن عن بدء تنفيذ خطة الفصل لضمان دعم المستوطنين له. وإلى جانب يعالون هناك وزراء لهم تأثير كبير أيضا في بنيامين نتانياهو ودفعه في المزيد من مشاريع البناء الاستيطاني وانعكس ذلك من خلال رد فعل نتانياهو على تصريح الوزير جدعون ساعر عند وصوله إلى الاحتفالات بما يسمى توحيد القدس إلى جانب الوزير نفتالي بينت عندما قال: «هناك الكثير من الحديث عن البناء في القدس، ويجب وقف التصريحات والبدء بالبناء». في اليوم التالي، أعلن نتانياهو أنّه يجرى البناء في القدس طوال الوقت، وبأنه سيواصل البناء في الأحياء الخاضعة للخلاف السياسي في القدسالشرقية، على رغم معارضة المجتمع الدولي. وكان نتانياهو يتحدث في الكنيست خلال نقاش جرى في ذكرى احتلال القدس واحتفالات إسرائيل بما أسمته «يوم القدس»، إذ قال: «نحن لا نبني في القدس كي ندخل في مواجهة مع المجتمع الدولي، إنما نفعل ذلك بمسؤولية وبرأي موزون لأن هذا هو حقنا الطبيعي». وقال أنه أمر في السابق ببناء مستوطنة «هار حوماه» (على جبل أبو غنيم)، وأنها تضم اليوم عشرات آلاف السكان وباتت تعتبر «مدينة داخل مدينة». كما أشار إلى أنه أمر ببناء حي «معاليه هزيتيم» وأن البناء يجرى أيضاً في أحياء راموت وجيلو وبسغات زئيف ورمات شلومو، داخل المدينة وفي الأحياء الطرفية. وأشار نتانياهو إلى أنه إلى جانب ذلك يجرى البناء في الأحياء العربية ويجب تحسين البناء هناك في شكل أكبر لرفاهية كل سكان القدس. ولعل قيام الناشط اليميني آرييه كينغ، عضو بلدية القدس الغربية، بشراء منطقة تابعة لكنيسة مهجورة في الضفة الغربية، تحديداً على المقطع الذي يربط بين القدس والخليل، والعمل على ترميمها بهدف إنشاء مستوطنة جديدة، يخطط لتوطينها في الفترة القريبة، هو أبرز دعم إسرائيلي لنشاط المستوطنين. فالمنطقة تقع في مكان استراتيجي قريب من مخيم العروب، بين الخليل وبيت لحم، وتصل مساحتها إلى 38 دونماً. وسيتيح استيطان هذه المنطقة التي أطلق عليها اسم «بيت براخا»، توسيع مستوطنات غوش عتصيون جنوباً. ويمكن توسيع هذه المستوطنة في شكل كبير مستقبلاً على الأراضي المحيطة بها من الشمال والجنوب. وتضم هذه المنطقة التي اشتراها كينغ ثمانية مبانٍ يمكنها استيعاب أكثر من 20 عائلة. وأرييه كينغ نفسه كان سيطر على أملاك تابعة للفلسطينيين، قبل ثلاث سنوات، بدعم من الجهات الاستيطانية من بينها حركة «أمناه» – الذراع التابعة لمجلس المستوطنات وتعمل في بناء البؤر الاستيطانية غير القانونية في الضفة – ورئيس المجلس الإقليمي غوش عتصيون، دافيدي فيرل. وقام بتركيب الكثير من كاميرات التصوير حول المباني التي يتم من داخل غرفة مراقبة فيها متابعة ما يحدث في المنطقة من أعمال ترميم تمهيداً لتوطين المستوطنين فيها. وتم إنشاء جدار جديد حول المباني، لكنه بسبب بناء الجدار من دون ترخيص أصدرت الإدارة المدنية أمراً بوقف العمل فيه، لكنه لم يتم حتى الآن هدمه. إذاً، نحن إزاء مخطط طويل وعميق لإرضاء المستوطنين، على رغم الاعتراض الفلسطيني والانتقاد الدولي. وهو ينذر بتفجير الأوضاع في القدس. وقيام نتانياهو ويعالون وغيرهما من أقطاب الحكومة بتحدي العالم أجمع في هذه المشاريع، إنما يبين أن أجندتهم محلية بالأساس. فالمستوطنون الذين تخلوا عن حزبهم الخاص «البيت اليهودي» في الانتخابات الأخيرة (هبط من 12 إلى 8 مقاعد) ودعموا ليكود في آخر لحظة، ينتظرون من ليكود تسديد الثمن. ونتانياهو الذي يدرك أن حكومته لن تصمد طويلاً، وسيضطر للذهاب من جديد طالباً أصوات الناخبين، يهتم بهؤلاء أكثر من أي فئة أخرى في المجتمع، مهما كان الثمن.