تابع الجميع ببالغ الأسى والحزن ما حصل لأهل جدة جراء هطول أمطار ما لبثت فرحتهم بها أن انقلبت إلى حزن، وانشغل الرأي بهذه القضية، فتسابق الكتّاب إلى ملء أعمدتهم بفكرة حول الحدث، وعقدت البرامج الإعلامية في القنوات الفضائية لمناقشته، وصار حديث العوام في مواقع الشبكة العنكبوتية والمجالس اليومية عن الأمطار، وما خلفته وراءها من القتل والدمار، ومما خفف المعاناة كلمات خادم الحرمين تجاه هذه الخطب التي امتازت بشفافية عالية وإنسانية صادقة واعترافات غير مسبوقة، فقد حزت في نفس خادم الحرمين النتائج الكارثية لأمطار لا يمكن وصفها بالكارثية، وأن مثل هذه الأمطار تسقط على العديد من الدول، ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات، ولا ينتج منها خسائر وأضرار مفجعة، وذكر أنه من المتعين تحديد الجهات والأشخاص المسؤولين عنه، وأن لديه، حفظه الله، الشجاعة الكافية للإفصاح عن ذلك، والتصدي له بكل حزم، مستصحباً في ذلك تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم من صنيع بعض أصحابه في ما ندبهم إليه، وقد أمر بتشكيل لجنة تقصي الحقائق للتحقيق مع كل مقصر كانت نتيجة تقصيره وخطئه أرواح البشر، وذهبت عوائل بأكملها نتيجة لتضييعه للأمانة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه الحوادث وغيرها ما سبق لجنة تقصي الحقائق من لجان، أين دورها على أرض الواقع؟ أم أنها لجان صورية لم يتجاوز عملها أوراق المكاتب وأسطحة الرفوف؟ ألم تتشكل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في يوم الاثنين من شهر صفر في عام 1428ه (19 شباط/ فبراير عام 2007) منذ قرابة الأعوام الثلاثة، وكان في مقدم أهدافها حماية النزاهة ومكافحة الفساد بشتى صوره ومظاهره، وتحصين المجتمع السعودي ضد الفساد، ومن آلياتها العمل بمبدأ المساءلة لكل مسؤول مهما كان موقعه وفقاً للأنظمة، ومع ذلك لم نسمع بمساءلة موظف صغير، فضلاً عن مسؤول كبير. إن المشكلة الحقيقية للمواطن تكمن في تغييب قانون (من أين لك هذا؟)، الذي استخدمه رسول الله كشرع إداري، لمحاسبة موظفيه أمام العامة في خطبة استمع إليها الصغير قبل الكبير، ليترسخ مفهوم الأمانة في نفوس الناشئة قبل الكبار، وفي صحيح البخاري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلاً، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ: لَهُ أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ فَتَشَهَّدَ، وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ». لقد حاسب رسول الله ابن اللتبية حساباً جماهيرياً في خطبة حضرها جم غفير من أصحابه وحفظوها وتناقلوها، لأنه يؤمن بأن هذا المجتمع الصغير سيكبر، وأن أحد الأفراد الحاضرين اليوم سيكون مسؤولاً في الغد، وأن حساب ابن اللتبية سيتكرر عليه، فكانت تربية عادلة للكبير والصغير، وقد سلك الخلفاء الراشدون بعد رسول الله هذه السياسة الإدارية العظيمة التي تستلزم محاكمة موظفي القطاع العام الذي أصبح (البخشيش) جزءاً لا يتجزأ من مدخولاتهم الوظيفية إلا من رحم الله. لقد تحدث رسول عن قواعد الخدمة المدنية في مجتمع ناشئ صغير كان الجوع يحتاطه، لكنها السياسة المحمدية الصالحة لكل زمان، ولقد صور رسول الله العذاب الشديد لمن تلقى بعيراً أو شاة رشوة، فما حال موظفي اليوم إذا جاء مع أحدهم أسطول من السيارات الفارهة والمباني الضخمة والأرصدة المفتوحة، في حين أنه لم يتمكن من سداد الأقساط المتراكمة قبل توليه؟ فالويل لمن غل مال الوطن، وكيف سيحمل على ظهره هذه الأدوار الشاهقة. إن شريعة (من أين لك هذا) تتغيب في الدول الإسلامية، مع أن الذي أسسها رسول الإسلام، وتراها متبعة بدقة وصرامة في الدول الكافرة على المسؤولين كبيرهم قبل صغيرهم، وعادة ما يحتم هذا القانون على المسؤول تسجيل ما يملك قبل توليه منصبه من ثروة أياً كان نوعها، ثم يحاسب بعد تركه المنصب أو أثناء توليه المنصب على أي زيادة غير عادية في ثروته، وأحياناً ثروة أقاربه من زوجة وأولاد وإخوة وأخوات. فمتى سيرى المسلمون قانون (من أين لك هذا) واقعاً يعيشونه، وينعمون بعدالته؟ وهل سنرى محاسبة المتسببين في كارثة جدة على أرض الواقع، نسمع أخبار محاسبتهم ويذهب غيظ قلوبنا بمعاقبتهم، (كما بدأت بوادر ذلك تظهر)؟ أم أن مصير لجنة تقصي الحقائق سيكون كمصير هيئة مكافحة الفساد؟ * داعية وأكاديمية سعودية [email protected]